يُعدّ الاستهلاك، أي الفعل الذي من خلاله تستخدم الأسر السلع والخدمات أو تقوم بتحويلها، في صميم النشاط الاقتصادي. ومع ذلك، فإن تطوره لا يسير دائمًا وفق مسارات يمكن التنبؤ بها.
تُسلّط فكرة “الاستهلاك العشوائي” الضوء على هذا الجانب غير المتوقع، من خلال تقديم قراءة ترى أن تقلبات الاستهلاك ترتبط بأحداث جديدة و غير متوقعة.
و يُعتبر هذا الطرح، الذي يقع عند تقاطع النظرية الاقتصادية و علم نفس المستهلك، مدخلًا لفهم أعمق للآليات التي تحكم خياراتنا اليومية في الإنفاق.
الاستهلاك : توازن معقّد
يعتمد استهلاك الأسر على مجموعة معقّدة من العوامل.
فمن جهة، يتأثر بعناصر نقدية مثل الدخل المتاح و الثروة و القدرة على الاقتراض.
و من جهة أخرى، تدخل في المعادلة عوامل غير نقدية كالتوقعات بشأن تطور الدخل في المستقبل، والثقة في الاقتصاد، والعادات الثقافية والنفسية.
و يُفسّر هذا التداخل بين العوامل سبب عدم تطور الاستهلاك بشكل خطّي، بل تقلبه وفق معطيات متعددة، تكون أحيانًا غير قابلة للتوقّع.
نظرية السير العشوائي
يُعتبر نموذج “السير العشوائي”، الذي اشتهر به الاقتصادي روبرت هال سنة 1978، من أبرز النماذج الاقتصادية لفهم ظاهرة الاستهلاك العشوائي.
و تفترض هذه النظرية أن الاستهلاك يسلك مسارًا لا يمكن التنبؤ بتغيراته، لأنها تعكس معلومات جديدة لم يكن المستهلك يتوقعها، مثل تغيّر مفاجئ في الوضع المهني أو المالي.
و بناءً على ذلك، فإن أفضل تقدير للاستهلاك في المستقبل هو الاستهلاك الحالي، لأن أي تغيير سيكون نتيجة معطيات جديدة وغير متوقعة.
و يستند هذا النموذج إلى فكرة مفادها أن الأفراد يسعون إلى توزيع استهلاكهم بشكل متوازن على مدى الزمن، مستندين في ذلك إلى استخدام عقلاني لكامل المعلومات المتاحة لديهم.
آثار عملية وحدود نظرية
تنطوي هذه الرؤية للاستهلاك على آثار مهمة بالنسبة للاقتصاديين وصنّاع السياسات.
فهي توحي بأن السياسات الهادفة إلى التأثير في سلوك المستهلكين يجب أن تراعي الطبيعة غير المتوقعة لتصرفات الأسر.
غير أن نموذج “السير العشوائي” ليس بمنأى عن النقد، خصوصًا فيما يتعلق بصرامة افتراضاته وحدود استخدامه الإحصائي.
فالواقع الاقتصادي والاجتماعي غالبًا ما يكون أكثر تعقيدًا، حيث تسود سلوكيات غير عقلانية أو تتأثر بعوامل لا تأخذها النظرية الكلاسيكية في الاعتبار.
و من هذا المنظور، يكشف الاستهلاك العشوائي عن التفاعل الدقيق بين العقلانية الاقتصادية ولا يقين الحياة اليومية.
و من خلال تبنّي هذا الطرح، يتّضح بشكل أفضل لماذا تعيد الأسر باستمرار ضبط نفقاتها حسب المستجدات، ولماذا ينبغي على التوقعات الاقتصادية أن تظل حذرة أمام هذه التقلبات.
إن هذه المقاربة تدعونا إلى النظر إلى الاستهلاك ليس كعملية حسابية ميكانيكية فحسب، بل كعملية حيّة، متجددة على الدوام.