تعليم

بقلم رضا الزهروني | أسباب انهيار المدرسة التّونسية: الجهل أو غياب الإرادة أو التدمير المقصود؟

من يتابع اليوم الشأن التربوي عن قرب وخاصة ما هو متصل بتصريحات ومواقف الأطراف المعنية في كلّ المستويات سواء منها المتعلق بما هو عاجل أو آجل ينتابه الشعور بالبهت لأنّه عاجزٌ على تفسير ما يحصل وبالخوف لأنّه لا يرى نورَ نهاية النّفق وبالإحباط لأن الواقع يتجاوزه.

سنة دراسية متميزة بأزماتها وعدم الاكتراث بالأضرار التي تتسبب فيها للتلميذ؟

انطلق المشوار الدّراسي لهذه السنة بعديد النقائص والإشكاليات، إضراب وتعطيل الدّروس في مستوى التعليم الابتدائي تجاوز الشهرين، فتأجيل امتحاناته للثّلاثي الأول، فحجب أعدادها لمرحلتي التعليم الأساسي والثانوي ثمّ مواصلة حجبها للثلاثي الثاني، نقابات تؤكد اعتزامها التمسك بقراراتها وتلوح بالتصعيد وبمواصلة نضالها إلى أن تتمّ الاستجابة إلى مطالبها. خطاب سلطة الإشراف بنفس النّبرة وعلى نفس النّغمة يريده الوزير مطمئنا لكلّ الأطراف المعنية منذ تعينه على رأس الوزارة في موفى جانفي الماضي. أولياء يلتجئون إلى القضاء في منتصف شهر مارس المنقضي للمطالبة بحق أبنائهم وبناتهم بإبطال قرارات نقابتي التعليم الأساسي والثانوي، قضاء يؤجل النظر في الدّعوى في مناسبتين قبل الحكم برفضها في 11 أفريل 2023 بسبب عدم توفر”شروط المصلحة” في حين أن الفصل 52 من دستور جويلية 2022 ينّصّ على أنّ الولي هو شريك الدولة في ضمان حقوق الطفل في التربية والتعليم إلى جانب الكرامة والصحة والرعاية، أولياء يستأنفون الحكم في القضية وقضاء يحدد موعد 15 ماي للنّظر فيها، أي بعد أكثر من 3 أسابيع وحوالي شهر قبل انتهاء السنة الدّراسية.

وفي الأثناء دخلت السنة الدّراسية في منعرجها الأخير، تلاميذ القطاع الخاصّ والبعض من تلاميذ القطاع العمومي تحصّلوا على بطاقات أعدادهم ومعدلاتهم، وتتواصل في المقابل معاناة الأغلبية من أبنائنا وبناتنا مع أوليائهم، لا علم لهم بمستوياتهم الفعلية، يتساءلون على أي لون سننتهي به السنة الدراسية هل ستكون بيضاء، هل  سيتمّ الالتجاء إلى  الارتقاء الآلي، وكيف سيتم التسجيل للترشح إلى مؤسسات التعليم العالي بالخارج؟ أسئلة عديدة تشغل بال كل المطلعين والمعنيين بالشأن التربوي. دراما مشابهة تماما لسابقاتها في مضمونها وفي الأضرار التي تتسبب فيها للتلاميذ وفي انعكاساتها الخطيرة خاصّة ما هو متعلق بالشّعور بالإحباط والتّهميش وبانسداد الأفق وعدم الـتّركيز وتراجع النتائج وتدني التّحصيل العلمي وانهيار مستوى التعليم عموما وفقدان المدرسة لمبدأيْ المجانية وتكافئ الفُرص وتعطّل مصعدها الاجتماعي وانعدام الثقة في التّعليم العمومي وتدعيم الفوارق بين مختلف فئات المجتمع وجهات البلاد.

إهتمام رئاسي بإصلاح المنظومة التربوية: إعلان نوايا أو إرادة فعلية؟

أكّد رئيس الجمهورية على هامش إشرافه على إحياء الذّكرى الثالثة والعشرين لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة في بداية الشهر الحالي وفي مناسبات تلتها قناعته بضرورة إصلاح جديد للتعليم وتطوير المناهج التعليمية قصد النهوض بالمجتمع التّونسي وبالدّور الأساسي للمدرسة والترّبية والتّعليم في بناء مستقبل البلاد. كما أذن بالانطلاق في الإعداد لإجراء استشارة للغرض بمشاركة كلّ المُتدخّلين  مشددا على أهمية المجلس الأعلى للتربية والتعليم والذي تمّ تضمينه بدستور 2022 معبّرا على أمله في إحداث هذه المؤسّسة في أقرب الأوقات بناءا على مُقترحات كل المتدخّلين في الشأن التّربوي من بينهم الأولياء. إعلانات وقرارات تراها النقابتين المعنيتين انزلاق خاطئ بمسار الإصلاح وتجاوزا للصّلاحيات.

المقصود من مواصلة سلطة الإشراف ترويج صور جميلة للمدرسة التونسية؟

حيث يندهشُ كلّ من يطلّع على الصفحة الرسمية لوزارة التربية بما يتمُّ نشره من صور مطمئنة للمدرسة التّونسية ومن أنشطة متعددة يمكن أن تندرج تحت لافتة “الانطلاق في الرفع من أداء منظومتنا التربوية بهدف إصلاحها”، ورشات مُكلّفة بتطوير البرامج والكتب المدرسية، تعاون الدولي في المستوين الحكومي وغير الحكومي، زيارات، انجازات، تعاون مع القطاع الخاص ومع مكونات المجتمع المدني… ويتواصل في الأثناء تدهور أداء المنظومة بكلّ مكوناتها خاصة ما هو متصل بالانقطاع المبكر عن الدراسة، حوالي 100 ألف تلميذ سنوي أي بمعدل 300 تلميذ يوميا، وبتراجع المستوى وتتنامي ظاهرتي الدروس الخصوصية وهجرة المدرسة العمومية والعنف المدرسي وبتواتر الأزمات.

ماذا يمكننا أن ننتظر من الاستشارة الوطنية للتربية والتعليم؟

من حقنا أن  نتساءل اليوم على الإضافة المحتملة لفتح المجال لكل مكونات المجتمع لإبداء آرائهم بخصوص موضوع يتطلب درجة دنيا من الدّراية والاختصاص في مجالات محددة وفي مسائل بعينها وعلى ما ستمثله الاستشارة من استعجال عملية معالجة الوضع التربوي أو تعطيله وتمديد آجال التنفيذ ونحن شخصنا الوضع في عديد المناسبات ومنذ عديد السنوات خاصّة في ضلّ عدم الاكتراث إلى ضرورة التسوية المسبقة لعديد النقاط المحورية والأساسية لعملية إعادة بناء مدرسة الغد ومن أهمها:

أي موقع للغات في المنظومة المستقبلية؟

عندما نُدرك درجة الأضرار المتأتية من الإبقاء على تدريس المواد العلمية والتقنية إلى اليوم باللغة العربية في المرحلة الإعدادية وبالفرنسية في المرحلة الثانوية خاصة في ما يتعلق بتدّني نسب النجاح العامة وبهجرة شعبة الرياضيات وحرمان التلاميذ من فرص فعلية للنجاح، فإننا نعي بأهمية الأمر وبضرورة التطرق إليه والحسم فيه قبل الانطلاق في أي عملية إصلاح.

أيّ دور تربوي للمدرسة وأي شخصية نرتئيها للتلميذ التونسي؟

من الضروري تساهم المدرسة في تربية الناشئة منذ حداثة سن الطفل ليكون رجل المستقبل أو امرأته على ضوء ما تعرفه حياتنا المعاصرة واليومية من مجالات تتطلب الإثراء أو التوعية أو التحسيس كالتربية الفنية والتربية على المواطنة والتربية الصحّية والتّربية الجنسية والتربية العاطفية والتربية المرورية والتربية على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي والتّربية البيئية. وهي مجالات تعود بالنظر إلى أهل الاختصاص كعلماء الاجتماع وعلماء النفس والأطباء …

ما هي المهن والاختصاصات المستقبلية الضامنة لتطور البلاد ونموه واستقراره؟

تتولى المدرسة في إطار وظيفتها التّعليمية تمكين المتعلم بما يحتاجه من معارف ومهارات لمواصلة مساره في التكوين المهني أو التعليم العالي في اختصاصات تستجيب من جهة إلى حاجيات البلاد من اختصاصات ومستويات ومهن ذات قابلية تشغيل عالية وتتماشى من جهة ثانية مع مؤهلات المتعلم. عديد المهن والاختصاصات سيتمّ الاستغناء عنها وأخرى سيتم بعثها او تطويرها كتلك المتصلة بالتكنولوجيات الدقيقة والاقتصاد الرقمي أو التي لها علاقة بالبيئة  وبالطاقات النظيفة والمتجددة. واقع جديد لا يمكن استشرافه ألا من طرف الخبراء والمختصين في المجالات المعنية لنصدّر الذكاء التونسي لا لنستاء من هجرة أدمغتنا.

أي تركيبة للمجلس الأعلى للتربية وما هي مهامه ودوره المستقبلي في بناء مدرسة الغد؟

الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تهيؤ إلى إقرار عديد الاختيارات والخيارات والمرجعيات المحورية والتي يجب الحسم فيها قبل الخوض في أي عملية إصلاح جذرية للمنظومة نظرا لعلاقاتها المباشرة بكلّ مكوناتها كالبرامج والزمن المدرسي وأنظمة التقييم والحاجيات من الموارد البشرية من كلّ المستويات والاختصاصات. وهي تتجاوز بالتالي حدود وزارة التربية وشركائها الاجتماعيين وتتطلب تشريك عديد الاختصاصات وعديد الأطراف الأخرى بما فيها والأولياء وتبقى بالتّالي من ضمن صلاحيات المجلس الأعلى للتّعليم والتربية من وجهة نظري.

فمواصلة التعامل مع الملف بنفس الطريقة التي تعتمدها الوزارة منذ عديد السنوات سيؤدي بالضرورة إلى التمديد في الآجال على حساب الأجيال ومستقبل البلاد ثمّ إلى فشل عملية الإصلاح لأن نفس الأسباب ستؤدي إلى نفس النتائج وبدرجة أخطر .

 

رضا الزهروني : رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى