تعليم

بقلم رضا الزهروني: الدروس الخصوصية أو مواصلة الاصطياد في الماء العكر؟

أصبحت الدروس الخصوصية شرطا أساسي وضرورة قصوى لمن يريد النجاح في منظومتنا التربوية. ظاهرة تتنامى وبنسق حثيث مع كل سنة دراسية ومنذ اصلاحيْ 1991 و2002 ونحن نقف اليوم على مدى انتشارها واستفحالها داخل المجتمع التونسي. ظاهرة شملت كلّ المستويات التعليمية من الابتدائي إلى التعليم العالي وكل المواد بما فيها الرياضة والموسيقى وخلال السنة الدراسية واثناء العطل الصيفية. وارتفعت بالتوازي كلفتها وتحولت تدريجيا إلى تجارة مربحة وتتحدث منظمات ناشطة في المجال التربوي على رقم معاملات يتراوح بين 1.5 و3 مليار دينار.

فمن الضروري الإقرار بان الدروس الخصوصية هي اليوم عنوان من العناوين البارزة لتدهور أداء منظومتنا التربوية ونتيجة منطقية لانهيار مستواها التعليمي وهي من ضمن أخطر ظواهرها السلبية على غرار الانقطاع المبكر عن الدراسة والعنف المدرسي وهجرة التعليم العمومي وتراجع نتائج الامتحانات الوطنية. فمدرستنا العمومية لم تعد اليوم لا مجانية ولا مصعدا اجتماعي ولم تعد قادرة على ضمان العدالة الاجتماعية وأصبح الامل في النجاح حكرا على الميسورين والمحظوظين من العائلات والجهات وهي التي اختارت الاستثمار في الدروس الخصوصية كامل المسار الدراسي ومنذ بداية مرحلته الابتدائية والاستثناءات لا تنفي القاعدة.

وهو ما أكده رئيس الجمهورية بمناسبة الاحتفال بيوم العلم في أوت 2023 عندما شدد على أنّه “ليس هناك حاجة إلى إحصائيات من مؤسسات البحث والإحصاء لمعرفة خريطة الفقر بتونس، بل يكفي النظر إلى نسب النجاح في الامتحانات الوطنية”.

 في حين أن إجراءات الوزارة المعلنة في بلاغها لشهر نوفمبر 2024 هي نفسها التي فشلت في تعاملها مع هذه الآفة بعد ان اقرها وزير التربية في اكتوبر 2015 وتوارثها جل من خلفوه من الوزراء. وهي وإن تعبر على رغبة فعلية في محاربة جانبها غير الأخلاقي في سلوك بعض المربين خاصة منه المتصل بالابتزاز والضغط والثراء الفاحش وخلق الفوارق بين المتعلمين وحتى بين المدرسين فهي ستزيد الأمور تعقيدا عندما لا تكون مصحوبة باخري تستهدف أصل الداء في جذوره ومن بداياته أي حين تكتفي بالتعامل مع عوارضها الجانبية واضرارها المعنوية.

فمن ناحية اللوجستية: ينص منشور الوزارة عدد 141 بتاريخ 13 نوفمبر 2024 على تقديم دروس دعم مجانية داخل الفضاءات المدرسية وخارج أوقات الدراسة لمن يستحق من التلاميذ وبعد موافقة اوليائهم أي لفائدة جلّ التلاميذ. وهي نفس المنهجية تقريبا بالنسبة للدروس الخصوصية وينتفع بها من يرغب من التلاميذ مقابل مبالغ مالية رمزية مقارنة بالأسعار المتداولة حاليا. وينص نفس المنشور على ان هذه الدروس بتم تنظيمها لمجموعات لا يتجاوز عدد افرادها 15 تلميذ وبمعدل ساعتين في الأسبوع أي 8 ساعات في الشهر.

فاذا ما اعتبرنا أنّ كل فصول المؤسسة التربوية معنية وتتطلب توزيع تلاميذها على مجموعتين على الأقل لتتلقى كل واحدة منها 8 ساعات دروس تكميلية (دعم او خصوصية) في الأسبوع وفي اربعة مواد أساسية. أي أن هذه المؤسسة مطالبة بتسخير الموارد البشرية والاقسام لتدريس 16 ساعة في الأسبوع بالإضافة الى زمن تدريسها العادي. أي يومين تدريس إضافيين لكل فصل بمعدل ست ساعات عمل في اليوم مع احتساب الأربع ساعات تدريس صبيحة يوم الاحد. ونعلم جيدا أن عديد مؤسساتنا التربوية تشكوا اليوم نقصا ملحوظا في مواردها البشرية وفي بنيتها الأساسية تولد عنه ضغط كبير في الأقسام وعلى المدرس.

ومن الناحية المالية: ينص المنشور المذكور في فقرته المتعلقة بالجوانب المالية على ان المبالغ المستوجبة لتلقي الدروس الخصوصية تتراوح بين 30 و45 دينار حسب مراحل التعليم على أن يعفى منها الاولياء الذين لا يتجاوز دخلهم مرة ونصف الاجر الأدنى المضمون وفي حدود تلميذين بكل فوج. ويتمتع التلاميذ الذين يتلقون دروس في أكثر من مادة بتخفيض بـ 50 بالمائة فيما زاد على المادتين. على ان تتوزع المداخيل بنسب مأوية محددة على كافة المتدخلين في العملية أي المدرس والإطار المشرف والعملة وجمعية العمل التنموي بالنسبة للمدرسة الابتدائية وميزانية وزارة التربية بالنسبة للإعداديات والمعاهد الثانوية.

والمتسائل أن يتساءل على مدى توفر القدرات البشرية المختصة لدى المؤسسة التربوية لتسوية هذه المعادلة المالية الصعبة خاصة وأن الامر يتعلق بالجانب المالي وهو الحساس في العملية نظرا لعلاقاته بأطراف مختلفة من المستفيدين والمنتفعين وهم الاولياء والمدرسين والإطار المشرف والعملة وهو مجال يتعامل بعديد المؤيدات ويتطلب متابعة محاسبية لصيقة.

وفيما يتعلق بالجانب البيداغوجي: عندما نعلم أن أغلبية التلاميذ وخاصة الذين تنتظرهم في امتحانات وطنية آخر السنة يتلقون دروس خصوصية بصفة منتظمة ومكثفة وفي كل المواد تقريبا وتبقى الاستثناءات كذلك لتأكيد القاعدة لا لنفيها. فالتساؤل يبقى مشروعا بخصوص قدرة التلميذ على تدارك النقص في مستوى تحصيله المعرفي عندما يتم تمكينه من ساعاتي دروس خصوصية في المادة وفي الأسبوع في نفس ظروف التعليم العادي تقريبا ونعلم جيدا ان المؤسسة التربوية لن تقدر بتاتا على مجاراة النسق.

ومن النواحي القانونية والمعنوية: باعتبار أن الإشكالية تتعلق بالأساس بالسلوك غير الاخلاقي لهذه الظاهرة وعندما يمارس المدرس ضغطا معنوي على التلميذ والولي ويتهاون في ادائه لعمله ويتهافت على الكسب الكثير والثراء الفاحش. فكان على الإدارة التعامل مع المخالفين بالصرامة المطلوبة وتسليط العقوبات المستوجبة ومنذ سنوات لما يتمّ التأكد من مخالفتهم اخلاقيات المهنة وكان على المصالح المالية ان تلعب دورها أيضا وتتثبت مع المعنين من مصادر ثرائهم.  

فالمعاملة الحالية وكأنها تضع مجمل المدرسين في قفص الاتهام حتى منهم من يتعامل بضمير مع الدّروس الخصوصية. والخوف ان تساهم هذه الإجراءات في مزيد تراجع مستوى المنظومة التربوية وفي ميلاد سوق سوداء فعلية للدروس الخصوصية وفي مزيد ازدهار التعليم الخاص وفي تنامي القطيعة المعرفية وحتى العاطفية بين مختلف فئات المجتمع وجهاته وبين كل المتدخلين في الشأن التربوي.

وفي الختام: علينا جميعا الادراك بان المصلحة البيداغوجية للتلميذ تبقى الفضلى من خلال حرصنا على البلوغ بتحصيله المعرفي إلى المستويات التي تضمن له اجتياز كل امتحاناته واستحقاقاته الوطنية بأكثر حظوظ النجاح ومن دون ان يكون للوضع الاجتماعي والمادي للعائلة العامل الأساسي لذلك. وهو ما يتطلب التركيز في برنامج الإصلاح التربوي على المرحلة الابتدائية والانطلاق فورا في إقرار إجراءات وحلول فعلية تضمن الرفع من أدائها في كل مكوناتها بهدف ضمان الارتقاء المستحق من سنة إلى سنة لأكثر عدد ممكن من أبنائنا وبناتنا.

وهذا لا يعني بتاتا اننا نتجاهل مراحل التعليم الإعدادي والثانوي والعالي والتكوين المهني من خلال وضع مشروع اصلاح شامل وطموح يهدف إلى بناء مدرسة الغد والى الاستثمار الفعلي في ذكاء أبنائنا وبناتنا ويضمن النهوض بمجتمعنا والٍارتقاء ببلادنا إلى مستوى الدول الراقية.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى