مآسي العنف المدرسي وكأنها أخذت طريق التطبيع داخل مجتمعنا وهي ظاهرة دائمة التطور من سنة إلى سنة من حيث عدد الحالات ودرجة الخطورة وتستهدف كل أعضاء الأسرة التربوية وخاصة المربين والتلاميذ وداخل المؤسسات التربوية وخارجها. ولنُذكِّر أنّ انطلاق السنة الدراسية الحالية تزامن في يومه الأول مع وفاة تلميذ بسبب تعرضه الى العنف الشديد من طرف شابين وعشنا منذ مدة حادثة تعرُّض معلمة شابة إلى الطّعن من طرف أحد تلاميذها ونحن نعيش اليوم وفاة استاذ تربية بعد اضرامه النار في نفسه بسبب تعرضه إلى التنمر على وسائل التواصل الاجتماعي.
مظاهر العنف تختلف وتختلف معها نسب تواتر الحوادث المتسببة فيها ودرجة خطورتها ودائما ما يتم الاكتفاء بالتفاعل الإعلامي معها والأخطر من العنف نفسه عدم اهتداء الأطراف المسؤولة إلى الحلول الجذرية للقضاء على هذه الآفة. حيث يتم التعرض في جلّ التظاهرات التي يتم تنظيمها للغرض من دراسات وندوات إلى أهم الأسباب المولدة للعنف المدرسي والمتمثلة في تقلص الدور التربوي للأسرة والمجتمع وفي انعدام الإحساس بالانتماء للمدرسة وفقدان الشعور باحترام الذات وتدني الظروف الاجتماعية والاقتصادية للعائلة وفقدان الرعاية النفسية وتنامي الثقافات العنيفة الوطنية والمستوردة وتنامي مظاهر العنف والإكراه في مستوى المجتمع التونسي وفي انعدام السياسات المنظمة لأوقات الفراغ وفي عدم توفّر الدعم والمرافقة النفسية الكافية والمختصة لتعهد الحالات الحرجة ولمتابعتها قصد استباقها أو معالجتها إلخ.
وستبقى دار لقمان على حالها لما تتجاهل سلطة الاشراف السبب الرئيسي لتنامي ظاهرة العنف المدرسي والمتمثل في انهيار أداء منظومتنا التربوية وخاصة ما هو متصل بالانقطاع المبكر عن الدراسة مع التأكيد على أنّ العنف يساهم بدوره في مزيد تدهور المنظومة التربوية. ونتساءل جميعا وبموضوعية على ما يمكن لنا ان ننتظره كسلوك من حوالي مائة ألف تلميذ وتلميذة يرون أنفسهم مجبرين على ترك مقاعد الدراسة عند نهاية كل سنة دراسية. شباب من فئة المراهقين والمراهقات يشعر فيي أغلبيتهم بمرارة الفشل والخوف من المستقبل وبالإحباط وإلى جانب الشعور بالتهميش والنقمة. ومن الطبيعي جدا ان تتجسم هذه المشاعر بسلوكيات عنيفة وخطيرة وحتى ان صدرت عن القليل من أبنائنا وبناتنا فيبقى ذلك كثير ومرفوض في مجتمعنا.
فمنظومتنا التربوية ليست لها اليوم أي علاقة بالجودة ومدرستنا العمومية لم تعد لا مجانية ولا مصعدا اجتماعي وهي غير قادرة بتاتا على تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص أي إقصائية بامتياز. فأبناء العائلات الميسورة وبناتها لهم امل في النجاح المدرسي والفئات الفقيرة والجهات المهمشة حظهم الفشل والاستثناء يؤكد القاعدة لا ينفيها. واقع يتسبب لنا مع مر السنوات في تدعيم الفوارق بين مختلف فئات المجتمع وبين الجهات وفي تقويض العواطف السلبية وخاصة الخطير منها. واقع يتسبب لنا أيضا في خسارة لا يمكن تقديرها وإهدارا كبيرا للموارد العامة والخاصة بسبب بعثرة المكاسب البشرية والإنسانية وكأننا نضع شبابنا في مواجهة مع العجز المعرفي والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي ومع الانحراف وندفع بهم في اتجاه منحدر الفشل بمختلف تعقيداته والمتعلقة بوهم المعرفة وتقديس الجهل. وهي خسارة ستتوارثها الأجيال بعد الأجيال.
العديد من الأطراف يتحملون بالضرورة مسؤولية في تفاقم الظاهرة ولهم دور أساسي في التعامل اليومي والميداني بهدف الوقاية منها ومعالجة اضرارها عند الحاجة وخاصة المدرسة بمختلف اطاراتها التربوية والاولياء. غير ان الحل الجذري ينطلق مع انطلاق الإصلاح الفعلي لمنظومتنا التربوية ويمثل هذا الانجاز في حد ذاته شرطا من الشروط الأساسية لمقاومة العنف المدرسي وحتى العنف داخل المجتمع نظرا لما تلعبه التربية وما يلعبه التعليم من دور أساسي ومحوري في بناء المجتمعات المتميزة في كل المجالات. مع العمل في الوقت ذاته على إرساء إستراتيجية وطنية يتمّ تنفيذها بصفة متواصلة للوقاية من ظاهرة العنف ومقاومتها وتتجسم بخطط ميدانية وعملية سنوية وعمل يومي على ان تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الجهات ومكونات المجتمع وواقع كل مدرسة تربوية وكل معهد ثانوي.
ويتطلب بالتالي النجاح في تنفيذ المشروع تشريك كل الأطراف المتداخلة بما في ذلك التلاميذ والأولياء والمربين والأمنيين والمختصين من علماء النفس وعلماء الاجتماع وسلطات محلية وجهوية ووطنية وخاصة منها الهياكل التابعة لوزارات التربية والداخلية والأسرة والشؤون الاجتماعية والصحة بالإضافة إلى الإعلام وتمكينهم من الإمكانيات البيداغوجية والتكوين اللازم مع تحميل كلّ طرف مسؤولياته في مستوى التنفيذ والمتابعة. ولا يمكن لهذا المشروع النجاح في انعدام الإرادة السياسية للإصلاح ومن دون مأسسة العملية من الدراسة الى الانجاز والمتابعة.
لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات