ثقافة

بقلم عبد العزيز القاطري: هل كُتِبَ للفنّان أن يكون تابعا لا رائدا ؟

الفن يشترك مع جميع الأنشطة المهنية للبشر في كونه وسيلة لتأمين لقمة العيش، ولكنه يختلف عنها في كونه عملا إبداعية، يأتي نتيجة لاعتصار قدرة الخلق والابداع لدى صاحبه، ولمجهود مضن لمخيلته، يأخذ من روحه ومن جسده ومن وقته، وبالتالي من حياته.

لذلك، فإن حصر مكانة الفنان في حركات مثل عناية السلطة، أو تضامن الناس، أو الشفقة، واستغلال هشاشته المادية أو الصحية أو النفسية للمنّ عليه ببعض الدراهم أو العروض، لغرض الدعاية السياسية، أمر فيه حسب نظري ازدراء للفنان، لا رفع لشأنه.

لقد استنبطت الشعوب المتطورة منظومات قانونية وتقنية واضحة وحازمة للمحافظة على مكانة الفنان، ألا وهي منظومات الحقوق الفكرية التي بفضلها تتم حماية حقوق التأليف ومتابعة جميع عمليات استغلال الأعمال الفنية لضمان مطابقتها للقانون ودفع المستغلين حقوق الاستغلال التي يتم تجميعها ضمن صندوق معد للغرض وإعادة توزيعها على اصحابها بعد اقتطاع الاداءات المستوجبة عليها والخصم لفائدة صناديق التأمين على المرض والتقاعد، حتى يتم توفير منظومة حماية صحية وتقاعد لائقين.

اما في صورة حدوث اعتداءات على حقوق الملكية بالاستيلاء أو التقليد أو الاستنساخ فإنه تتخذ كل الإجراءات والتتبعات، وتكون العقوبات شديدة بالسجن والتخطئة، إضافة إلى التعويضات بطبيعة الحال.

بذلك فقط نتيح للفنان أن يكون عنصرا منتجا، فاعلا، ذا قيمة، وذا كرامة، لا عالة على المجتمع أو محل شفقة وصدقة.

ونحن في تونس لدينا -على مستوى الشكل على الأقل- المنظومة القانونية المذكورة، لكن وللأسف، كأغلب القوانين في هذا البلد، فهي متروكة وغير معمول بها.

ولئن كان نظام بن علي هو المبادر بسن تلك المنظومة، فإنه كان المبادر أيضا بضربها، يقينا منه أن الفن الحق والثقافة الحق لا يتماشيان والنظام الدكتاتوري، وأن استقلال الفنانين والمبدعين ماليا عن الدولة فيه تهديد لنظامه، لذلك وجب تركيعهم بجعلهم دائما بحاجة لأن “يشملهم بعطفه الأبوي وبموصول عنايته” حسب العبارة المستهلكة، مقابل وجوب انخراطهم في منظومة الدعاية والتطبيل، وإلا يكون مصيرهم الإقصاء.

ولعل أكبر مثال على ضرب حقوق الموسيقيين والمسرحيين وحتى المخترعين هو ذلك الرواق الكائن بين شارع باريس وحديقة الحبيب ثامر، والمسمى رواق 7 نسبة للسابع من نوفمبر، والمعد خصيصا لاستنساخ الإسطوانات والالبومات والمسرحيات والحفلات والعروض والأعمال السينمائية والتلفزية والبرمجيات والتطبيقات الإعلامية، خارج الأطر القانونية وتحت ضل الدولة وبرعاية منها، بحيث يكون سعر الألبوم مثلا 500 مليما، بينما يفوق ال20 يورو في أوروبا، أي مائة ضعف السعر في تونس، وكم هي كثيرة ومنتشرة تلك المحلات على كامل تراب الجمهورية، تسرق عرق الناس بلا حسيب ولا رقيب.

ومن نتائج ذلك هو أن أحد أكبر الفنانين نجاحا جماهيريا ألا وهو لمين النهدي عندما تعرض لوعكة صحية خطيرة تولى النظام انتهاز الفرصة وتعهد بعلاجه على حساب المجموعة الوطنية في حركة شعبوية دنيئة ومهينة للفنان الذي كان مجبرا على التصريح بشكره وامتنانه لصانع التغيير.

والأدهى من ذلك هو تواصل انتهاك حقوق الفنانين بعد الثورة من طرف دولة الإخوان وعملائهم سواء زمن الترويكا أو زمن التوافق مع النداء أو زمن الخيانة اليوم، فالثقافة والفن والعلم هم أعداء المشروع الظلامي لهؤلاء.

لذلك لا غرابة في إسناد حقيبة وزارة الثقافة زمن التوافق لأحد أكبر المادحين لبن علي الذي سخر قلمه لتبييض نظام الاستبداد، عندما كان المثقفون الأفذاذ والأحرار إما يتضورون جوعا واما يحشرون في السجون أو في المنافي، بل أنك تجد اليوم مثقفين وجامعيين مصطفين وراء عبير موسي، الرمز الحي لنظام الإستبداد، والتي لم تقم بأية مراجعات، ولم تعبر يوما عن أي شكل من الندم على ممارسات نظامها وحزبها، بل بالعكس، تفتخر بكل ما تم من انتهاكات لحقوق الإنسان ومن تجاوزات الحكام والعائلات ومن فساد….

خلاصة القول، وجب على جميع القوى الوطنية الحية، وخاصة المققفين والفنانين، أن يهبوا الى نجدة تونس بالالتفاف حول المبادرات السياسية التي تتضمن برامجها مشاريع لحماية حقوقهم، وبالانخراط بكثافة في الشأن العام كخطوة أولى لدحر الدجالين واذنابهم، وبناء مشروع وطني ثقافي يحفظ كرامة المثقف بالدفاع عن حقوقه الشرعية، ويعبّد طريق الحرية والأنوار للأجيال القادمة.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى