سياسة

بقلم عبد العزيز القاطري: البــوعزيزي لم يطلب شيئــا من أحد

في أواخـر شهر ديسمبـر 2010 كنت أقضّـي بعض الأيــام في السرس، وفي صبيحة السبت 19 ديــسمبروعند مروري وسط المديــنة استـوقفني صديق الدّراسة كمــال شهـر “بندو” الذي كـان يبيــع بعض الخضــار علـى قـارعة الطــريق لتجــاذب أطـراف الذّكــريات المضحكة وأملا في أن أقتني منه ما تيسّــر من الخضــار حتّـى “ينقض” سلعته على حدّ قوله.

تحــادثنــا عن زملائنا ومعلميــنا، وذكّــرته بسبب تسميته “بندو”، وقد كــان ذلك بسبب نصّ القــراءة بالفــرنسية الذي عنــوانه à la porte Bondoux، وأطــلق العنــان لنكــاته المليء بروح الدّعــابة الفطـرية، وبالتهكّــم على الجميع، وبالفجــاجة أحيــانا، وتعــالت أصـواتنا وأصــوات المحيــطين بنا بالضحك. لم يعمّــر بندو طـويلا بالمدرسة، فقد غــادر سريــعا ليقضّي بقية عمــره بين ثلاثة: نصبة الخضــر لوالده، الحــانة، والسجن. كــان في كلّ مــرّة يغــادر السجن يعــاهد نفسه ووالدته بالإستقــامة وتجنب أصحــاب السـوء، وكان في كل مـرّة يأخذه الحنيــن إلى القنيــنة وأصحــاب الســوء فيعــود للسجن.

فـي تلك المــرّة كـان حديـث العهد بالحــرية بعد بضعة أشهــر قضــاها وراء القضبــان، ورغم أنه تجــاوز سن الخمسين بقليل، إلّا أن هيأته تــوحي بأنه أكبر من ذلك بكثيــر، فقد ابيضّ شعــره، وفقد الكثيــر من أسنــانه، وتحوّل بيــاض وجهه إلـى صفرة وخفت نــوره إلّا من بريــق عينيه الزرقــاوين. لم يبق من روحه الذّكية المــرحة إلّا بعض أسهم لســانه التي يرمي بها النــاس والزمن.

فجـأة، تـوقف بندو عن الضحك وتغيّـرت ملامحه وقــال لي : هــاهم الحنوشة جوا في “الشاماط”، فـي إشــارة إلى الشرطة وسيـارة رينو شاماد التي يتنقلون على متنهــا. توقفت السيـارة غيــر بعيد من “النصبة” العشـوائية، وصـاح السـائق متوجهـا لبندو : هيّـا، لِمْ نصبتك لا نفكهـالك. نظـر إليه بــندو نظـرة حمّلهــا كل الحقد الذي تــراكم في صدره على مـرّ السنيــن والإيـقافـات الظّــالمة والرّبطيـات، ثم انفجــر: إي فكّــوا على ربكم، حتى بطلت الشـراب وقلت نريض على روحي وناكل خبزة مع النّـاس تحبوا تمرروهـا أكثر مـاهي مرّة؟ أشنوّة؟ تحبّــوني نشعّل في روحي ليسونس كيما الطفل متــاع بوزيد آمس؟

استشاط السّــائق غضبـا وزمجــر بعض البذاءات، ثم فتح بـاب السيــارة وهمّ بالنـزول، إلّا أن مـرافقه تفطّــن لبداية تجمهـر المــارة حول النصبة والسيــارة، فأمسكه بقوة وبسـرعة من ســاعده مجبرا إيــاه على المكــوث مكــانه، وتوجّه لي بالتحية بيده مبتسمــا، كأن شيئــا لم يكن: السلام سي عبدالعـزيز، ثم همس في أذن صــاحبه وغــادرا المكــان.

مثل أغلبية التّــونسيين ، لم أكن على علم صبيـحة ذلك السبت بمــا حدث في سيدي بــوزيد بالأمس، واستفسـرت بندو عن الأمـر فحدّثنــي عن ذلك الشــاب الذي منعته الشرطة البلدية في سيدي بـوزيد من بيع خضــاره على الرّصيــف، ويبدو أن فتاة من الأعــوان صفعته، فذهب أمــام مقـرّ الولاية لطلب مقــابلة الــوالي والتظلم لديه، وأمــام رفض هذا الأخيــر قبــوله، سكب البنزيــن علــى جسده مهدّدا بحــرق نفسه عسـى الـوالي يكترث له، لكن دون جدوى، وأمــام طــول انتظــاره، قــام بقدح الولّاعة وأضرم النّــار في جسده.

قبل أن أقتني بعض الخضار وأغــادر، أعلمنــي بندو أن عون الشــرطة ســائق “الشـاماط” لا ينفكّ عن هرسلته منذ أن طلب منه دفع ثمــن بعض الخضــار التي أراد اقتناءهـا بالمجــان كعــادته مع جميــع تجّــار المديــنة.

لم يكن أحد في ذلك اليــوم ولا في الأيــام المــوالية يعلم هـوية الشــاب المحتــرق قبل زيــارة الرئيــس الجنرال المفدّى له في مستشفــى الحـروق البليــغة، وقبل أن “يشملــه بمـوصول عنــايته وبكريــم رعــايته”، وقبل أن “يسدي تعليــماته للإطــار الطّبــي بوضعه تحت العنــاية المـركّزة”، وهات من العبــارات الممجـوجة التي ألِفهــا التّــونسيون وأصبحــوا يمقتــونها. كــان الرئيــس الــواقف عند السـريــر ببدلته الســوداء الأنيــقة وشعره الأســود اللمّــاع بفعل الصبــاغ والمســاحيق وهو يمثّـل دور المشفق الحزيــن بحركــاته السخيــفة المألوفة، كــان في تنــاقض تــام مع المحــروق الملقــى على السريــر ملفــوفا في الضمّــادات البيضــاء من رأسه إلى أخمص قدميه دون حراك. هل كــان يعي مــا يدور حــوله؟ هل كــان يسمع مــا يقوله الجلّاد؟ هل كــان حيّــا أصلا؟ لا أحد من جوقة المطبّليــن اكترث له، ولا حتّــى فرقة صحفيي البلاط المجنديــن للغــرض انتبه للأمــر. كــان المصــوّرون يدورون حــول السرير في حركة مستمرّة، حرصــا على التقــاط الصّــورة الأجمــل للرئيــس وهو يمثل دور الحزن برداءته المعهــودة، عســاه ينــال رضاه بترقية أو مكــافأة. لقد كــان استحــواذ الآلـة الإعلاميـة الرسميــة على الحــادثة يــومهــا، وتحـويــلها من مأســاة شــاب أحرق نفسه وعــائلة احتــرقت قلــوبها معه إلــى إنجــاز عظيــم للــرّئيــس بمثــابة الشــرارة الحقيقيّـة للثّــورة، سمحت للتّــونسييــن بوضع اسـم على ذلك الجسد المضمّد: البــوعزيزي.

استولت إِذنْ الآلة الإعلاميّــة الرّسمية علـى صـورة البــوعزيزي لتجعــل منه ركــوبة للتســويق لرحمة الرئيــس بأبنــائه من الشبــاب، ولمّــا يئست من ضمــان ولاء النــاس “للتعــاطف الرئــاسي” مع الضحية، انقلبت عليه، وشرعت في تشويــهه، وجعلت منه سكّيــرا، عربيــدا، ومتعــاطي مخدّرات.

وفي الضفة الخليــجية من العــالم العــربي، كــانت هنــاك آلة إعلامية نقيــضة ولكن قوية جدّا، تؤويــها وتمـوّلها دولة قطــر الدّيـمقراطية جدّا، المقـرّ الرّسمــي للتنظيــم العالمـي للإخــوان المجــرمين، وتديــرها دوائــر المــال العـالمي بالتنسيــق مع المخــابرات الأمريكية والصهيــونية والتركية وغيــرها من أعضــاء العصــابة التي تقف وراء مــا سُمّيَ بالرّبيــع العربي وثــورة اليــاسمين، آلة استحــوذت هي الأخــرى علــى صورة الفتــى التّعيــس ونفخت فيــها، فغيّــروا إسمه الحقيقي من طــارق إلى محمد، وجعلــوه من ذوي الشّهــادات الجــامعية، وهو الذي لم يضع ولو قدمــا في الجــامعة، وجعلــوا منه رمــزا للنّضــال ضدّ النّظــام وأيقــونة للثّــورة التّــونسية القــادمة.

لم يكن البــوعزيــزي يــومـا ثــائرا ضدّ النّظــام ولا بطلا، ولا حلم أو فكّــر حتـى بأن يكــون كذلك، لم يعـرف والده الذي اضطـرّ للهجــرة إلى ليبيـا لكسب قوت أولاده وتوفي ومحمد لم يتجــاوز الثــالثة من عمــره، وزاول تعلّـمه الإبتدائي في مدرسة تتكوّن من قــاعة وحيدة لجميع التلاميـذ، واضطـرّ للإنقطــاع عن الدّراســة والدّخــول إلى معتـرك الحيــاة العملية وهو لا يزال طفلا، حــاول التقدم للجيش أو لأي وظيف آخـر ولم ينجح، وبقي يشتغل في أعمــال هشّة إلى أن لحقته الأحداث في 2010.

كل مــا كــان يريده البوعزيزي هــو لقمة عيــش تملأ بطنه، وسقف يؤويــه، وربمــا حضن يدفّأه، أو قــارورة خمـر تمنحه بعض النشــوة التي حــرم منهــا، أو حتّــى  بعض الأنفــاس من سجــائر الحشيــش تأخذ روحه عن جسده المنهك وترتفع بهــا إلى عــالم الخيــال وتنسيــه بـؤس يومه، فيخــلد معهـا للنّــوم في انتظــار بؤس اليــوم المــوالي. كــان هو وشلّته وأمثــاله من الشبــاب المهمّش يتزوّدون بالمسكرات من محلات بيع الخمـور خلسة والمنتشرة في كــافة أنحــاء البلاد برعــاية من السلطة التي تستعملها للسيطــرة على الأحيــاء ووسيلة إثــراء للنّــافذين فيها، حيث تمتنع عن منح أصحــابها التراخيص القانونية كي تتركهم عـرضة للإبتــزاز، مقــابل إسنــاد الرّخـص لأقــارب الرّئيــس ولعــائلات الإقتصــاد الرّيعــي من أصحــاب المســاحات الكبـرى، تمــاما مثل باعة المخدّرات الذيــن ينتشــرون أمام المعــاهد وفي الأحيــاء وفي المقـاهي على مرأى ومسمع من السّلط التي تكتفي بأخذ نصيبــها من المحصــول وتترك الحبل علــى الغــارب، ومـاذا كنّــا ننتظــر من نظــام رئيــسه يمنح جــوازا ديبلومــاسيا لشقيقه تــاجر المخدّرات لإنقــاذه من التتبعــات؟

واليــوم، تدرك الآلات السيــاسية والإعلامية ذاتُهــا روح البـوعزيزي وتدمجها في صــراعات الســاعة، صـراعات من نــوع هل مــا حدث ثـورة أم انقلاب؟ وهل البوعزيزي شهيــد أم زنديــق؟ وهل الثــورة حدثت في 17 أم في 14؟ وهل مــا قـام به سعيد في 25 انقلاب أم تصحيح مســار؟ صــراعات لا شأن للفقيــد بهــا، ولا تغني الشعب ولا تشبعه، الغــرض منهــا إلهــاؤه عن مشــاغله الحقيــقية: الفقر، الهشــاشة، البطــالة، غلاء الأسعــار، تدنّـي القدرة الشّــرائية، تداين المواطن والدّولة، شبح الإفلاس الجمــاعي، انتشــار الجريــمة، تدنّي التعليم والصحة والنقل وجميــع الخدمــات الإدارية، تعميــم الفســاد…، كل هذه المســائل يتمّ تغييــبها تمــاما عن السّــاحة الســاسية، ولا يتمّ استحضــارها إلّا لغــرض المـزايدة في المــواعيــد الإنتخــابية وسرعــان مــا يتخلّــى عنهــا الجميــع حــال زوال اسباب استحضــارها.

لكــأنّه كُتِبَ على طــارق البــوعزيـزي أن يشقــى حيّــا وميّــتا، وألّا تلقــى روحه السكيــنة، وأن تبقــى لعبة بأيدي ســاسة أوغــاد، لا همّ لهــم غيــر مصــالحهم السيــاسية أو المــالية. لقد آن الأوان للتّــونسيّيـــن أن يتــركوه لحــاله، وأن أن يتصــالحوا مع أنفسهم ومع تــاريخهم، وأن يتــركــوا المــاضي البعيــد والقـريــب للمؤرخيــن، وأن يولّــوا وجــوههم للمستقبل، ولبنــاء وطن الحرية والديــمقراطية والمســاواة، وطن يطيــب فيه العيــش، يضمّ أبنــاءه ويخلق لهم أحلامــا تجنّبهم اللجــوء لحــرق أنفسهم أو للحــرق إلـى أوروبا.

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى