سياسة

بقلم عبد العزيز القاطري: الدّيوانة بين سندان الفساد ومطـرقة الإرتجال والشّعبـويّة

أصدر وزيـر المـالية قـرارات تقضـي بالإحـالة على التّقـاعد الـوجـوبي لـ21 عون ديـوانة، منهم ضبّـاط قـادة وضبّـاط سامون، قرارات تشـوبها إخلالات لا يقبلهـا أيّ مُبتدِئ في دراسة القـانون الإداري.

لن أخـوض هنـا في موجبـات هذه القـرارات ومـا يتداوله رواد فيسبوك من وجـود ملفّـات تتعلق بتجـاوزات قد يكـون ارتكبهـا الأعـوان المعنيـون، لأنّ القـرارات المذكـورة لم تُـورِد أسبــاب إحـالتهم علـى التقـاعد الوجـوبي، لذلك ليس من الجدّبة فـي شيء تنـاول أمـور لا تـزال موضـوع تخميـنات. وحتّـى علـى اعتبـار وجـود ملفّـات أو تجـاوزات ترقـى إلى شبهـات فسـاد، فإنّ مهمّـة البتّ فيـها تقع علـى عــاتق القضـاء دون غيـره في “الدّولة القويّة العـادلة”، لكنّنـي سأتناول قانونيّة تلك القـرارت بالدّرس، ليس انتصــارا لأيّ كـان، ولكن لتجنيـب الدّولة الوقــوع في مغبّـات تجـاوز السلطة والأخطــاء الشكلية التـي من شأنهـا أن تعـود عليها، وبالتّالي علـى المجمـوعة الوطنية التي أنا منهـا، بالوبــال فـي شكل تعويـضات، ولتجنّب تسليط الظُّلم علـى أشخـاص قد تثبت لاحقـا بـراءتهم.

لقد تمّ اتّخـاذ تلك القرارات من طرف وزيـر المـالية بناء على ثلاثة إطّلاعـات يتعلّق أوّلهـا بالقـانون عدد 46 لسنة 1996 المتعلق بضبط النظـام الأسـاسي العــام لأعـوان الدّيـوانة وخـاصة الفص 81 منه الذي ينصّ علـى مـا يلي:”التقاعد هو حالة أعوان الديوانة المرسمين عند إنقطاعهم نهائيا عن العمل الفعلي وتمتعهم بمنحة التقاعد سواء كانت كاملة أو نسبية وذلك حسب الشروط التي نصت عليها أحكام هذا القانون واحكام القانون عدد 12 لسنة 1985 المؤرخ في 5 مارس 1985 والمتعلق بضبط نظام جرايات التقاعد المدنية والعسكرية بالقطاع العمومي وخاصة منها الأحكام المتعلقة بنظام منحة التقاعد التي يتمتع بها العسكريون”، وكمـا تلاحظـون، فإنّ هذا الفصل لا يتحدّث عن “تقـاعد وجــوبي”، بـل عن “التقـاعد” كحـالة لأعـوان الدّيـوانة المنقطعيـن نهـائيّا عن العمل الفعـلي، حسب الأحكـام التي نصّ عليـها ذات القـانون وأحكـام قـانون نظـام الجرايات في القطـاع العمـومي. فماذا تقـول تلك الأحكـام بشأن إحـالة الموظفيـن العمـوميّيـن علـى التّقـاعد الوجـوبي؟ لا شيء.

بل يُمكـن القـول بعد الإطّلاع علـى جميع القـوانين المعنية (النظام الأساسي لأعوان الديوانة، النظام الأساسي للوظيفة العمومية ونظام التقاعد للمدنيين والعسكرييـن) أنّ أيّـا منهـا لم يشر في أيّ من أحكــامه إلـى إمكــانية إحـالة الأعـوان العمــوميين على التقـاعد الوجـوبي  سـواء كإجـراء إداري أو كعقــوبة.

فـأمّا قـانون نظـام التّقــاعد فينصّ عل مـا يلي:

الفصل 5 جديد – يُكتَسَبُ الحق في جراية التقاعد

: 1عند بلوغ العون سن التقاعد

2:قبل بلوغه هذه السن:

أ – في حالة العجز البدني.

ب – بطلب منه وبعد موافقة المشغل.

ج – في حالة الإستقالة.

د – بمبادرة من المشغل من أجل القصور المهني للعون أو العزل.

هـ – بطلب من الأمهات اللآتي لهن على الأقل ثلاثة أبناء لا يتجاوز عمرهم عشرين سنة أو ابن معوق إعاقة عميقة وبعد موافقة الوزير الأول.

و – وجوبا بعد قضاء خمسة عشر (15) عاما من الخدمات الفعلية المدنية والعسكرية.

ونلاحـظ هنـا أنّه لا وجـود لـ”تقـاعد وجـوبي” في هذا القـانون، ولكن لـ”حق في جراية التّقـاعد قبل بلـوغ السّن القـانوني بمبـادرة من المُشغّل (وزير المـالية هنا) من أجل القصـور المهنـي أو العـزل”، وهـو مـا لمْ تذكـره قرارات الوزيـر.

وحتّـى إذا سلّمـنا أنّ المقصـود هو عـزل من أجـل خطـا مهنـي فـادح، فإنّ الفصل 57 من النظاـم الأسـاسي ينصّ علـى أنّـه “في صورة إرتكاب خطأ جسيـم من طرف عون الديوانة سواء كان بإخلاله بالواجبات المهنية او بإرتكابه مخالفة للحق العام فانه يمكن إيقافه حالا عن مباشرة وظيفته مع حرمانه من مرتبه… يجب فورا رفع القضية لدى النيابة العمومية ” (وليس إحـالته علـى التّقـاعد)، مضيـفا وينبغي ان تسوى بصفة نهائية حالة العون الواقع إيقافه في اجل اربعة اشهر من تاريخ اجراء العمل بقرار الإيقاف.  اذا لم يصدر اي قرار عند انتهاء المدة المحددة بأربعة اشهر ولم يقع البت في قضية العون ولم تسلط عليه اية عقوبة يكون له الحق في التمتع من جديد بكامل مرتبه واسترجاع مستحقاته للمدة التي قضاها وهو موقوف عن العمل ويرجع الى وظيفته من جديد.

وحتّـى إذا تمّ إقـرار العـزل طبقـا لأحكـام الفقرة 2 من الفصـل 52، فإن تلك  العقوبة من الدرجة الثانية لا يمكن تسليـطها إلّا بقرار معلل بعد استشارة مجلس الشرف المختص الذي يقوم بمهام مجلس التأديب، وهـو شـرط غيـر مستـوفى حيث لمْ تُشِر  قـرارات وزيـر المـالية فـي طـالعها إلـى قـرار مجلس الشرف مثلمـا اقتضت الإجـراءات المعمـول بهـا، بلْ أنّ النّـاطق الـرسمي باسم الإدارة العـامّة للدّيـوانة صـرّح أنّه لا علم للإدارة بتلك القـرارات غداة اتّخـاذها.

أمّـا إذا تمّت معـاينة قصـور مهنـي، فإنّ أقصـى مـا يسمح به النّظــام الأسـاسي هـو الإحـالة علـى التّقـاعد مع التّمتع بمنحة التّقـاعد أو الإعفـاء طبقـا لأحكـام الفصـل 78، وليـس العـزل، علـ أن “يتخذ القرار في جميع هذه الحالات من طرف الوزير المكلف بالمالية بعد استشارة مجلس الشرف المختص الذي يبدي رأيه في الموضوع كما لو كان الأمر يتعلق بالعقوبات التأديبية من الدرجة الثانية” وهو مـا لم يتمّ مثلمـا ذكرت، ولا يتمّ العـزل بتـاتا لأسبـاب تأديـبية دون استشـارة مجلس الشّـرف إلّا في صـورة صدور حكم جـزائي نهـائي وبـات بالإدانة.

فهل هذه دولتكمـا العــادلة يـا سي محمّد عبّـو ويا سي نـزار يعيــش؟ هـل من العدل فـي شيء الدّوس علـى قـوانين الدّولة؟ هـل تظُنّــان أنّكمـا أول من اكتشف هذه الطّريـقة؟ ألا تتذكّـر يـا سي محمد أنه تمّت تجربتها من طرف زملائك السّـابقين، البحيــري مع القضـاة (لأغـراض حزبية وسيـاسية) والرّاجحـي مع الأمنيّيـن (بإيـعاز من بن سدريـن لأغـراض شخصية) وعيّاد مع الديـوانيّة، وأنّهـا لم تقضِ علـى الفسـاد في القضــاء والأمن والدّيـوانة، بل زادت كرّسته، وعـادت بالوبـال علـى الدّولة؟

إقرآ مـا كتبه القـاضي الإداري الفـاضل محمّد العيّـادي عضو هيئة مكـافحة الفسـاد، والّذي لا يتبـادر لذهـن أي كـان أنّه ليدافع عن الفسـاد:” تقريبا كل المحالين على التقاعد الوجوبي من الامن او الديوانة او المعفيين من القضاة (يقصد بعد الثورة مبـاشرة) تحصلوا على قرارات قضائية تقضي بالغاء القرارات الصادرة في شأنهم، واسباب الالغاء تعود اما الى اخلالات إجرائية او أخرى أصلية نتيجة الانحراف بالسلطة والاجراءات فيها او لوهن السند الواقعي والقانوني، لذا فقد توجب التيقظ وعدم التسرع مخافة الوقوع في نفس الاخطاء السابقة، حيث ان هذه الاخيرة تسببت في النهاية في تعمير ذمة الدولة بعنوان تعويضات مالية تعكر وضعية خزينة الدولة بطريقة نحن في غنى عنها”.

هل بالشعبوية وبسـوء التّصـرّف فـي المـوارد البشرية والمـالية للدّولة تقـاومـان الفسـاد؟ وهـل بإلقـاء ذمم النّــاس وأعـراضهم بالجملة ودون تمييــز لقمة سـائغة للتّلطيــخ و للشّمـاتة دون تمكيـنهم من حقّهم في المثـول أمـم مجلس الشّرف والدّفـاع عن أنفسهم مثلمـا يقتضيه القـانون، تُحقّقــان الدّولة القوية العــادلة؟ وغدا، لمّــا يتمّ إنصـاف جميعهم أو بعضهـم من طرف المحكمة الإدارية بسبب جملة الإخلالات مثلمـا حدث للذيـن لقـوا نفس المصيـر في 2011، هل ستدفعــان من مــالكما الخـاص مـا ستتكبّده الدّولة من خســائر؟ وحتّـى بخصـوص القضـايا الجنـاحية المتعلقة ببعضهم، هل أنتمـا ضـامنــان أن المحــاكم سوف تُديـنهم بالضّرورة؟ ومـاذا بشـان من يقـول منهم أنّ المحكمة حكمت بعد في شأنه بعدم سمـاع الدّعـوى؟

وأنت يـا سي نزار، كيف تصمت على مـا قـام به منظـوروك بديـوانك من تصـوير لقرارات الإحـالة علـى التّقـاعد ممضــاة من طرفك قبل تسجيـلها بمكتب الضبط وقبل إعطــائها أرقــاما وختمها ثمّ تداولهـا على شبكـات التّـواصل الإجتمــاعي قبل وصـولها للإدارة العــامة للدّيـوانة وقبل تبليـغهـا إلـى أصحــابها، متسبّبيـن في ذلك فـي وفـاة والدة أحدهم بسكتة قلبية بعد سماع الخبر في فيسبوك؟ أهكذا، بالإعتبـاطية والهـواية والإستهتـار بأعراض الناس تقـاوم الفسـاد؟ الحقيقة أنك لست الوحيد في هذه الحـالة، فمنذ أيّـام تم تداول رســالة موجّهة من رئيس الحكـومة إلى مجلس نـواب الشّعب ممضــاة من طرفه وغيـر حـاملة لنفس المعطيات.

منذ 2011 والدّيـونة تتقــاذفهــا الأحزاب والحكــومات والنّواب ووســائل الإعـلام بالتّهم والتّجريــح والشتم دون تحريك ســاكن لإصـلاحهـا، هل تعلمــان لمــاذا؟ لأنّه ليست من مصلحة أحد فيهم بمــا فيهم شركــاؤكم في الحكم اليـوم والذيـن يحكمـون البلاد منذ 2011، ولا من مصلحة جميــع المتـوافقين معهم طيلة فترة ما بعد الثورة تكريـس الشّفـافية في الدّيـوانة، لأنّهـا تهدّد مصــالح الأصحـاب والموالين و مموّلي الحملات الإنتخـابية، فـي دولة لا بالقوية ولا بالعــادلة، لا تحــاسب الأحزاب عن مصـادر تمويــلهم، ولأنّهـا تحـول دون تمريـر ما لا يجب تمريره من ممنـوعات تهدّد أمننـا وأمن جيراننا. بالمقــابل يكفي أن يشمل إجـراء سليم أو بحث أحد الأصدقــاء من المهربين حتّـى ينقضّ علـى الإدارة وابل من التّدخلات المبــاشرة والمكـالمات والضغـوطات من أصدقــائه النّواب أو الوزراء وغيرهم من المتنفّذيــن لنجدته.

في رفـوف الإدارة تنــام عشــرات التّقــارير حول منـابع الفســاد وطرق التّصدي لهـا، كثيـر منها كتبتهـا بنفسي، واطّلع عليهـا أصحـاب القرار، وعُقِدتْ حولها الإجتمـاعات، ودخلت طي النسيان، وفي رفوف الوزارة ورئـاسة الحكومة ينــام مشـروع إعــادة هيكلة شــاملة للإدارة لتكريس لا مـادية الإجراءات وشفافيتها، وتحديـد المسئوليات، وتعميم اللّامركزية وغير ذلك من الإصلاحــات الجوهرية الكفيلة بالنهوض بالهيكل وجعله عنصرا فاعلا في التنمية وتنقيته من مسببـات التهريب والفساد، وبتنمية موارد الدّولة وحمـاية اقتصـادها مع حفظ كـرامة الأعـوان ومضـاعفة مرتّباتهم، مشروع أشرفتُ على إعداده صحبة ثلة من خيـرة الإطــارات، وقمت بإحالته للسلط المعنية رسميا في جانفي 2016، فمــا الذي حــال دون وضعه موضع الدّرس وتطويره ومن ثمّ تنفيـذه؟

لمــاذا لا تتمّ مســاءلة المديــرين العــامّيـن الذيــن تداولـوا على رأس الدّيـوانة، وتمتّعــوا بامتيــازات الخطّة من راتب مرمــوق وعدّة سيّـارات وسفرات للخــارج ومنــابات في محــاضر لم يرفعــوها، مقـابل تهـاونهم في إصلاح الإدارة، واكتفــائهم بالمـوجود، بل ومســاهمة البعض منهم فـي استشراء الفســاد عن طريق إزاحة الضبّــاط المتفــانيـن وتعييــن من هم محلّ شبهــات مُلِحّة أو تتبّعــات في مراكز القيـادة استجــابة لرغبــات كبــار المهرّبيــن والمديــنين لهم من السّيــاسيّيـن، راميــن بضلال الشّبهة علــى سلك بأكمله؟

الدّولة القوية العـادلة لا تتوخّـى التّنكيـل والإرتجــال، بل تفتح تحقيــقا عميـقا وجدّيـا مع جميـع رؤساء الحكـومـات ووزراء المـالية والمديــرين العـامين (ما عدا الذين مكثوا شهرين أو ثلاثة على الأكثر أو الذي استقـال رافضا تسييـس السلك) حـول تخــاذل الجميـع في وضع الإصلاحــات حيّز التطبيق، ، وبعث هيـكل موازي ضمن رئاسة الحكومة لمقـاومة السّـوق الموازية والتهريب فإذا به يتحول إلـى أداة ابتـزاز للمشتبه بهم.

القضــاء علـى الفســاد يمرّ عبر القضــاء علـى مسبّبــاته، وإلـى الآن للأسف، مسبّبــاته فـي ازديـاد.

 

 

 

 

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى