سياسة

بقلم عبد العزيز القاطري: النّهضة، أو الخدعة الكُبْـــرى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ

صدق الله العظيــم

في المنتصف الثّــاني من القرن 19 كــانت الأغلبيّة القصــوى للبلدان العربية والإسلامية تقبع فــي قــاع سبعة قـرون من الإنحطـــاط كــانت بدايتها نهــاية العصر الذهبي للحضــارة اليــانعة التــي شهدهــا العالم العربي الإسلامـي والتـي استَلَمت قصب حركة التّــاريـخ عن الحضارات الصينية والعراقية والفارسية والمصرية واليــونانية التــي سبقتهــا، فتنــاولتهــا بالتّرجمة أوّلا، ثمّ بالدّرس والإثراء ثـانيا، إلــى أن اهتصرتهــا في رحمهــا لتلدهــا من جديـد في شكل حركة فكرية وفلسفيّة وعلمية مبهرة أشعّت بنـورها على بقية العــالم، انطلقت من دمشق ثم بغداد وبيتها للحكمة، لتنتشر في بلاد فارس والقيروان وفـاس وقرطبة واشبيلية وغرناطة وغيرها من منــارات علوم الجبر والهندسة والفلك والطب والفلسفة، ومن نوادي الشعر والموسيقى. ولم يكن كـلّ ذلك محض صدفة بل وليــد مســار معقّد تواصل عدّة قرون بفضــل منــاخ الحرّية، صحيـح حرّية نسبية شهدت عدّة انتكــاسات بالنسبة لمن يرونهــا بعيون اليــوم، ولكنّهــا كانت متميّزة وكــافية لتحريــر المبادرة الفكرية مقــارنة بمــا كـان يحدث حواليهـا في بقيّة أصقــاع العــالم، وفي أوروبا بالخصوص التــي ما كـادت تخرج من خضمّ ليل القرون الوسطى الطّويـل حتّـى دخلت تحت نير الكنيسة ومحــاكم التفتيش بما صــاحب ذلك من ملاحقة لكل فكر حرّ أو حتّـى مشتبه، ومن اضطهـاد وتعذيب وحرق للنّــاس أحيــاء، وللكتب.

لكن، مـا الّـذي حدث كي تدور كفّة الرّحــى، ويصبح الرّائد منحطّــا ثمّ تــابعا، والمنحطُّ رائدا ثمّ سيّدا؟ الحقيــقة، ليس هنــاك من حدث مفــاجئ بعينه يمكن أن نجعله لحظة فارقة لهذا التّحــوّل، لأنّــه كـان هو الآخـر وليد مســارين طويــلين نسبيا، ولكنّهمـا في اتجاهين معــاكسين: مســار انحســار فكري هنــا سببه انحســار مجــال الحرّية كقــاعدة أســاسية لكل عملية خلق وإبداع، ومســار انعتــاق وتحرّر هنــاك فكَّ قيـودَ العقل وفتح أبــواب التفكيــر. غير أنه يمكن حسب رأيــي المتواضع ذكر أحداث مفصلية لها رمزيتها الكبيــرة داخل هذين المســارين المعــاكسين ساهمت في تسريعهمـا:

في نهــاية القرن الثّــاني عشر، ذاع صيــت ابن رشد كأعظم علمــاء العرب والأرض قــاطبة آنذاك، رائد علم الطبّ وكــاشف قرنية العيـن، واضع أسس علم التّشريح، الفيلسوف شــارح فلسفة أرسطو، صـاحب كتـاب تهـافت التّهـافت الّذي ردّ فيــه علـى كتــاب تهــافت الفلاسفة لأبي حامد الغـزالي وأرضه المعلّقة بين قرنيْ ثـور،  وخــاصّة القــائل بأن الشّريــعة غيــر متنــاقضة مع علــوم العقل والبرهان، شريــطة أن يمكث كلّ منهمـا في مكــانه. كمــا أنّه القــائل بوجــود” حقيقة واحدة فقط يمكن الوصول إليها عن طريقين مختلفين: عن طريق الإيمان، وعن طريق الفلسفة. وعندما يتعارض الطريقان فهذا يعني أن علينا قراءة النص المقدس بطريقة تأويلية”.

ورغم التّحوّطــات “الفقهيّة” التـي اتّخذها ابن رشد في تمشّيـه تجنّبــا لسـوء فهم مقــاصده، كحرصه “على مراعاة اللغة العربية وأصولها، وأن يكون التأويل غير مخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز في تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي”، وعلــى أنّ تأويل النّص المقدّس يجب أن يكون مقتصرا علـى من هم أهل له لقوله تعــالى: “وَما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم”، فإنّ أفكــاره لم تكن لتروقَ لفقهـاء ذلك العصر وغيرهم من الإنتهــازيّيـن  روّاد البلاطــات الآكليــن علـى مـوائد الملــوك والأمــراء الّــذين يتردّد إليــهم ابن رشد، بفعل الحسد والغيــرة ممّــا يلقــاه لديهم من تبجيــل، والّذيــن رأوا فيــه تهديــدا للإمتيــازات التي ينعمــون بهــا،  فراحوا يكيدون له، ويتّهمـونه بالزندقة، وبالتّأثيـر على أبي يحي شقيـق المنصور خليـفة دولة الموحّديــن كيْ يطيــح به، إلـى أن أوغـروا قلبه عليه، فأُحضِر في مجلسه، “وأُهين ولُعن أمام الحاضرين واتُهم بالكفر والمروق من الدين، وأمر هذا الحاكم بإخراجه في أسوإ حال، وإبعاده وإبعاد من يتكلّم بشيء من العلوم المتعلقة بالفلسفة، وأمر أن تكتب عنه الكتب في البلاد طالبة من الناس ترك هذه العلوم جملة واحدة، وإحراق كتب الفلسفة كلها”. يومهــا انطلقت رحلة ابن رشد في العذاب والإضطهــاد، ورحلة المسلميــن في الإنحطــاط والظّلامية.

ولكن وجب القـول أنّه كمــا كانت شعلة انطلاقة العصر الذّهبي من بغداد، فقد بدأت انتكـاسته منها، حين بدأ فقهــاء البلاطــات العبّـاسيّة منذ القرن الثّــامن يقــولون بأنّ العلــوم القديــمة (اليونانية) بدعة، وطبعــا كل بدعة ضلال..، وأصبحوا يكيدون لكل فكر مستنيــر، ولعل أهم حــادثة تمثّلت في دعوة أبي بشر متّى مترجــم كتب الفلسفة اليـونانية إلى مجلس الوزير ابن الفرات، والتّنكيــل به، حيث “تعرض له أبو سعيد السيرافي، محتجاً أن العرب ليست بحاجة إلى “منطق”، لأن إجراء لغتها في مجراها الصحيح حرفاً وكلمة وجملة، هو المنطق بذاته. وبدأ يطرح أُحجِيات نحوية على أبي بشر لا تعلق لها بموضوع النقاش. الأكثر لفتاً للنظر في هذا الهجوم المبكر أن الوزير ابن الفرات اعتبر تصدي السيرافي للمنطق وتسفيه مقولات أبي بشر نوعاً من “الانتصار للدّين وأهله”!.

وهــاتان الحــادثتان لوحدهمـا تبيّنــان بكلّ وضـوح أنّ أغلب اعتراضــات الفقهــاء علــى الفلاسفة والتـي أدّت إلـى التّنكيـل بهم مردّهــا دنيوي مــادّي بحت، لِمَــا كـانوا يمثّلونه من تهديــد لمكــانتهم لدى الملوك الذين يسترزقــون منهم.

وفــي نفس الفتــرة التــي كـان فيــها ابن رشد هــاربا من مضطهديه من بلاط لبلاط، ومن قرية لقرية، وكــانت فيها كتبه تحرق، كانت أفكــاره تسري في أوروبـا وجــامعاتها سريــان النّــار في هشيــم الفكر المتحجر، ســاعدها فـي ذلك لاحِقا اكتشــاف المطبعة التي مكّنت عــامّة النّــاس من فرصة قراءة الكتب التي كــانت حكرا على طبقة الأثريــاء، رغم ردّة الفعل المنتظــرة والعنيــفة لأســاقفة الكنيـسة (النسخة الكـاثوليكية لفقهـاء التّطرف)، نظــرا لمــا تُمثّله من تهديــد لسلطــتهم عـلى الملــوك والعبــاد وعلـى مستـوى البذخ المفرط الذي يجنونه من مكــانتهم تلك، ولعلّ أبرز ردّة فعل كــانت المحـاكمة البـاريسيّة الشّهيــرة للرّشدييــن (نسبة لابن رشد) سنة  1210 مباشرة بعد قيام المدرسة الرّشدية بها. ومثّلت تلك الأفكــار شعلةَ مـا أصبحنا نسمّيــه اليــوم عصر النهضة الأوروبي، بفضل انتصــارها على ظلامية الكنيسة، والتي تُوِّجـت بقرن الأنــوار، ثم بالثّـورة الصنــاعية، والـيوم بالثــورة المعلــومـاتية والرّقميّـة، وبثـورة الـ NANOTECHNOLOGY، والذّكــاء الإصطنــاعي والرّوبوتــات…

حـادثان آخران كــانا مفصليّيـن في هذا المسـار التّــاريخي، وتتويــجا لغلبة الكفّة الأوروبية، ليس علـى العرب والمسلميــن فقط، بل علـى اليهــود والسّــود أيضــا، وعـلى بقيّة العــالم آنذاك، وقد حدَثــا في نفس السّنة من نفس القرن 15، سنة 1492 التـي شهد أوّلهــا غزو غرنــاطة آخر معقل للإسلام في اسبــانيا من طرف جيوش إيزابيل وفرديناند، وطرد المسلمين منها، ومـا صحبه من تنكيــل بهم وباليهــود رغم التّعهدات الممضــاة بعدم التّعــرّض لهم، بينمــا شهد آخرها اكتشــاف القــارة الأمريكية من طرف كولومبس بإيعــاز من الملكين نفسهما ومــا تبعه من تقتيــل وتدجيــن لسُكّــانها الأصلييـن (الهنود الحمر)، ومن نهب لخيراتــها، ومن جلب ملاييــن الأفــارقة لهــا رقيـقا مغلــولين وبيعهم بمبـاركة من ذات الكنيــسة التي اتـاحت مراسيمها الصّـادرة عن البابا لملوك اسبانيا والبرتغــال استبــاحة جميع أراضي وأملاك الـسّاراكيـنوس (les sarrazins يعني العرب والمسلمين)، وغير المؤمنين (يعني غير المسيحيين)، والوثنيّين (يعني السود)، وكل أعداء المسيح أينما كانوا، وإخضـاعهم للعبودية للأبد.

وهنــا نلاحظ الإتّفــاق شبه التّـام فـي مواقف الّلاهــوتييـن من الجهتيـن عند العرب وعند الأوروبييـن حيـال نفس المسـائل، ســواء من حيث الوقــوف بكلّ عنف في وجه كل فكــر يدعــو لإعمــال العقل، أو من حيث التّشجيــع على غزو أراضي “الكفّـار” واستباحتهم وإخضــاعهم للعبـودية باسم الجهـاد هنا والحرب المقدّسة هناك. ولعلّ مــا يبعث على السخرية (لولا دراميّة المشهد وانعكــاساته المأسـاوية على حيــاة ملاييــن البشر)، أنّ مؤمنــي المسلميـن هم كفّــار لدى المسيحيّيــن، ومعتنقــي المسيـحيّة هم كفّــار لدى المسلميـن، والكلّ يستبـيح الكلّ باسم نفس المنطق الّلاهــوتي.

فــي الأثنــاء إذنْ، ضلّ العرب و المسلمون يراوحـون مكـانهم، يقبعــون في حلقة التّكــرار المفرغة، معتبريــن أن كل مــا يجب أن يقــال قد قيــل، وأن “العرب ليست بحــاجة للمنطق”، وأنّ لغتـها هي “المنطق بذاته”، وأن بــاب الإجتهــاد قد أُغلِق، ومــا علينا إلّا الإكتفــاء بترديــد مـا ذهب إليـه “السّـلف الصّــالح”، فجـاء العثمــانيون بعنجهيّتهم واستبدادهم ونهبهم، وعمّ الجــهل، وانتشـرت الشعــوذة وفنــون السحر والمتــاجرة بكلام الله من طرف القلّة التي تسنّــى لهـا البعض منه، وشيدت الأضـرحة لهم، فأصبح يسترزق منهــا حتى الجهلة من شيوخ الحضرة.

ولعل مــا يبعث على السخرية بقدر مــا يبعث علـى الألم، أن الإنجــاز الثقــافي الأعظم لنظــام بن علي هو ذلك العـرض الشّهيـر بنفس الإسم، الحضرة، العرض الذي يتضرّع فيه الأحيــاء لأشخــاص قضوا نحبهم منذ مئـات السّنيـن كـي يأخذوا بأيديهم، والذي كلّف خزيــنة الدّولة مـا كلّفها، والذي مــازال “المتمعّشــون” منه يقتتلـون من أجل إرثه ويتقــاسمون فتــاته إلـى اليوم.

ولم يستفيقوا من هذا السبــات إلّا علـى صفعة الغزو الغربي، ممثّلا في آلاته الصنــاعية وكهربــائه في البداية، ثم في جيوشه واستعمــاره لاحقا، بعد أن خذلهم الخليفة العثمــاني وملوكه وتركوهم لقمة ســائغة له. ورغم استمـاتة الأهالي واستبســالهم فـي وجه الغزاة، ورغم انتصــارهم في عدّة معــارك مشهــودة، فقد كــان لا بدّ ممّــا ليس منه بدّ، لأنّه لم يكن بإمكــان المقــاتلين، العزّل إلّا من شجــاعتهم، دحر جيــوش الرّشّــاشات والدّبّــابات العتيّة.

ولكن رُبَّ ضــارّة نــافعة، حيث ما إن مرّ ألم الصفعة الأوّل، حتى تحرّك البعض من خرّيجي مدرسة التكرار الصّدئة الّذيــن سنحت لهم فرصة الإحتكــاك بالمجتمعــات الغربية الغــازية وبمدارسها، وفهمــوا سرّ تفوّقهـا وأسبــاب هزيــمتنا، وشرعــوا في وضع الأسس الفكرية والفلسفية لجعل الشعــوب النّــائمة تنهض من سبــاتها، فيــما انتفض فقهــاء الجمود في وجه كل ما هو عصري، رافضيــن فكر “الإفرنج”، معتبرين ابتكــاراتهم وطــرق عيشهم بِدَعــا يُحَرَّمُ على المسلمين التّشبّه بهــا، فحرّمــوا حتّـى اللّبــاس الإفرنجي، بل وحرّموا حتّـى الوضـوء من الصّنـابير على المذاهب الثّلاثة، ما عدا الحنفيّون الذيـن قالوا بإبــاحة ذلك، وبذلك أصبحت الصنابيــر تحمل إسم الحنفية.

وكــان لزاما علــى روّاد الإصلاح أن يحــاربوا علـى جبهــات عِدّة: جبهة الجهل المترامية عروقه في أعمــاق الشّعــوب النّــائمة، وجبهة تجّــار الدّيــن والغُلاة الخــائفين من تزعزع سيطرتهم على عقــول النّــاس وعلى منظومة الإمتيــازات التي يجنــونها منهـا، وجبهة الخليــفة العثمــاني وملوكه في أصقــاع البلاد العربية والإسلامية الذيــن يرون في هذا الفكر الجديــد تهديــدا لشرعيتهم، وجبهة المستعمر الذي لا يريــد السمــاح لهؤلاء بالتّمكّــن من نفس أسبــاب تفوّقــه.

ولئن بدأت بعض بوادر هذا النــور القــادم من الغرب تلــوح في تــونس التي أعلنت منع الرّق وميلاد أول دستور مدني في تـاريخ العرب والمسلميـن والأفـارقة، أو في اصطنبول أين سمح الخليــفة عبدالحميـد الثّــاني بسنّ دستور وبانتخــاب برلمــان، فإنّ كفّة الظّلاميّيـن سرعــان مــا رجحت، وتنكر بــاي تونس لدستورهـا تحت ضغطــهم، فيمــا ألغى عبدالحميــد الثــاني الدستور وقــام بحلّ البرلمــان واحتجز جمــال الدّين الأفغــاني في الإقـامة الجبرية. وقد كــانت مواقفهم ثــابتة على مدى التّــارخ بجواز الرّق،  إذ كـان “الرأي السائد لدى فقهاء الإسلام هو اعتقادهم بأن شراء العبيد وبيعهم يعتبر عقدا صحيحا من حيث الأصل، وأن كل ما ارتقوا إليه في هذا السياق هو دعوة بعضهم إلى الرفق بهؤلاء العبيد، واعتبار أن لهم حقوق يجب مراعاتها مثل تجنب ضربهم، وعدم تجويعهم، والرفق بهم..” (صلاح الدين الجورشي).

مختصر الكلام، ورغم جميــع الإحتيــاطات التـي اتّخذهــا رواد الإصلاح لجعــل أفكــارهم تتمــاشى ومبــادئ ديننـا الحنيف، مرّة أخــرى يجهض الحُكّــام ومن والاهم من الظّلاميّيــن محــاولةَ التّنويــرِ هذه فـي المهد بحجة تعــارضها مع الشريــعة، ومع السّنة، ومع مــا وجدنا عليــه السّلف الصّــالح، شأنهم فــي ذلك شأن الذيــن قال فيــهم الله تعــالى فـي كتــابه العزيـز: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا.

تمَّ إذنْ اضطهــادُ رواد نهضة أواخر القرن19 وإجهــاض مُحــاولة الإستفــاقة في مهدهــا باسم الدّفــاع عن الشّريــعة، ولكنّ بدايــات القرن الـ20 شهدت مرور الجمــاعة إلــى الهجــوم وتكويــنهم لجمــاعة الإخــوان المسلميــن في مصر لإعلاء راية “الإسلام المبني على العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم ودحر أعدائهم، عن طريق تطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع وإقامة دولة الإسلام كدين عقيدة وعبادة، وكوطن وجنسية، دين ودولة، روحانية ومصحف وسيف” جمــاعة تحمل في جيناتها أدبيات العنف الشرعي المتمثل في الجهاد حسب تفسيــرهم له، ومعاداة الدّولة الوطنية بما هي عقبة لتحقيق الدّولة الدّينية الإسلامية العابرة للحدود والشّعــوب، وقد كــان لهــا صدى في تونس.

ففيمــا كــان زعمــاء الحركــة الوطنيّة يخــاطبون الـوازع الدّيــني لدى الشّعــوب التـي تئن تحت نير الإستعمــار، مستعيــنة بأجمـل مــا فيه من قيم، ألا وهي قيـمة الحـرّية، لاستنهــاض الهمم وقدح زنــاد الثورة ودحر العدوّ بمــا يتطلبه ذلك من تضحيــات بالنّفـس والنّفيــس، فإنّ الجمــاعة في عمــومهم تركـوا المستعمــر يرتع في البلاد وصبّـوا جامَّ سخطهــم علــى كل مفكّــر يتجرّأ علــى كســر طوق التقــوقع والجهــل والمطــالبة بالتّحــرر والإنعتــاق، لا مـن ربقة الإستعمــار فقط، بل من قــرون الجهل والظّلامية والشّعــوذة والإتّجــار بالدّيــن التي كانت سببا في حــالة التّخلف والوهن، وفي استبــاحة أرض الوطن، وكعــادتهم في كل مرّة يريــدون فيــها تكميــم أفـواه الحرّية، يلجئون لمقــولة الإسلام في خطــر حين لا خطر عــلى الإسـلام ســواهم، ويُكفّــرون مخــاطبيهم، ومثلمــا كفّروا ابن رشد وغيره من قبل، فقد كفّــروا الطّــاهر الحدّاد دون قراءة كتــابه، وكفّــروا طه حسين لمجرّد بحث علمي، وكفّــروا الشّــابي لمجرّد بيت شعري، الشّــابي الّذي قــال فيـهم:

إنَّما عَبْرَتِي لِخَطْبٍ ثَقِيلٍ  قد عَرانا، ولم نجد من أزاحهْ
كلّما قامَ في البلادِ خطيبٌ، مُوقِظٌ شَعْبَهُ، يُرِيدُ صَلاَحَهْ
ألبسوا روحَهُ قميصَ اضطهادٍ فاتكٍ، شائكٍ، يردُّ جِماحَهْ
وتوخَّوْا طرائقَ العَسف والإرهَاقِ تَوًّا، وَمَا تَوَخَّوْا سَمَاحَهْ

وبعد أن تكلّلت ثورة الشّعب التّـونسي بالنّصر على المستعمر سنة 1955، وبالإستقلال والجمهــورية ومجلة الأحـوال الشّخصية سنة 1957، وبالدّستــور سنة 1959، وبوضع أسس الدّولــة الوطنية الني تمثّل عَدُوَّهم الّلدود، وببقية إنجــازاتها كالبنية الأســاسية والتعليــم والصّحة، ثم بعد ثـورة الشعب من جديــد على نظــام الإستبداد الّذي ســاهموا في إكســائه الشرعية عبر المقولة الشّهيــرة “ربي الفوق وبن علي لوطا” وعبر توقيــع قيــادتهم على وثيقة العقد الإجتمــاعي التي تمكّن بفضلها بن علـي من الإستيلاء علـى الدّولة ومستحقّــات الشعب، راحوا يبثّــون سمــوم الفتنة والحقد على كلّ مــا هو وطني جميــل، بل وحتّـى حــاولوا الإستيلاء علــى إرث الثّــورة الأولــى بالبحث لهم عن جدّ مشترك مع المجــاهدين (الثعالبي)، وبتمجيــد البــاي بصفته رمـزا للخلافة العثمــانية، وبالإستيلاء على ذاكرة بعض معــارضي بـورقيبة وتبنّيـهم علـى أنّهم من صفــوف الإخــوان (بن يــوسف)، ثم انقضّــوا علـى الدّولة بعد ثورة 14 جـانفي، مغتنميــن فرصة نشوة الشّعب بالإنتصــار على المستبدّ الذي كــانوا بالأمس يُمجّـدونه ولم ينقلبــوا عليه إلا عندمــا خــاب أملهم فــي مشــاركته الحكم وجني ثمــار تواطـؤهم، وفخّخــوا هيــاكلها بالمندسّيـن والمُواليـن والفــاسدين، وأحكمــوا سيطرتهم علـى مؤسّســاتها التـي قــال زعيــمهم في يوم من الأيّــام أنّهــا غير مضمــونة، وشرّعــوا لاستبــاحة دمــائنا، وعقدوا مؤتمر أعداء سوريا والأمّة في تــونس، وغرّروا بالشبــاب اليـائس وبعثـوا به لمحرقة الحرب هناك، وحتّــى بالنّســاء إلى جهــاد النّكــاح،  وفتحــوا البلاد على مصراعيـها لأصدقــائهم من دعــاة ختــان البنــات وشرب بول البعيـر بعد أن كــانت تــونس مثالا للتّقدّمية ومنــارة للمعرفة، ثم لحلفــائهم من الدّول الــرّاعية للإرهــاب والتي يتأهبون لإمضـاء اتفـاقيات معهـا تُكرّس هيمنتهـا علـى السّــادة الوطنية، كلّ ذلك باستغلال ضعف الأحزاب الأخــرى وتواطـؤها، وتشتّت المغفليــن وبقية القوى الحية،  ويبقــى الهدف الأخيــر من كل ذلك هو التّمكن من أجل هدم الدّولة الوطنية وإقــامة دولة الخلافة بقيــادة أردوغــان وبتمويــل من قطر.

يتّضح إذن جليّـا أنّ تسمية هذه الطّغمة الظلاميّة الظّـالمة العميــلة بمُسَمَّـى “النّهضة” تحيّـلٌ تـاريـخيٌّ علـى المفهــوم الحقيـقي للنّهضة المستنيــرة العــادلة التّحرّرية، وخدعة تــاريخية وفلسفية قد تَخفَـى عن الكثيــرين من خصــومها وحتّى من منـاصريها، لأن فيهــا سطو علــى مصطلح هو في الأصــل رديــف لفكر مضــادّ لها، وأنّ مشـروعهـا السّيــاسي معـاد لنهضة الدّولة التّــونسية ولسيـادتها، وبالتّــالي وجب التّعــامل معهــا سيــاسيا وقضــائيّا وعسكريّــا إن لزم الأمــر كتنظيــم عدوّ، لأنّهــا لم تتردّدْ فـي تكويــن جنــاح سريّ لها، وفي تهديد التّونسيّيـن باستبــاحتهم فـي الشّوارع، بمـا يوحي بتحوّزهــا على الإمكــانيات العسكريّة لذلك.

وقد تولّيت في مقــال سـابق تحليــل هذه الحقبة بأكثر إطنــاب وعرضت علـى الجميع بمـا فيهم قيادات النّهضة مشروع حلّ لمعضلة هذا الحزب كتنظيــم سيــاسي ذو نزعة إسلامية في بلاد شعبها مسلم في أغلبيته، تنظيم يمثل تهديدا لوجود الدّولة في حدّ ذاتـها، مُعوّلا في ذلك علـى حكمة الجميــع، غير أنّــي في الحقيقة فعلت ذلك أيضا تبرئة لذمّتــي إزاء الجميــع أيضا، حتّــى لا يقـال أنه لم يــوجد في هذه البلاد أصواتا عــاقلة لتجنيـبها مغبّــات الإصطدامات، وإرضــاء لضميـري إزاء أبنــائي ومعـاصريهم من الأجيــال اللاحقة.

لذلك، لست مستغربــا اليوم من مكــوث هذا النّداء غير مسموع، فــي خضمّ انهمــاك الجميــع في حســاباتهم للتّمـركز على رقعة الشطرنج الحزبية والبرلمــانية والحكومية الضّيقة ولمزيــد نهب البلاد مقــابل القضاء على الطّبقة الوسطـى وتجويع الكــادحين والعـاطلين وأصحـاب المؤسّسـات التي لم تخضع لابتزازاتهم.

غير أنّي أتوجّه بنداء جديــد، ولكن هذه المرّة لجميــع القوى الحيّة الوطنيّة (يعني غير المرتهنة للخــارج وغير المتواطئة مع الممثّل المحلّي لتنظيـم الإخوان)، لدعوتــهم لعدم الإنخـراط  في حملات الشتــيمة البدائية المستهدفة للطّغمة المُسمّــاة بالنّهضة، لأنّ الشّتــيمة قد تُروّح على أنفس البعض، ولكنّهــا ليست من شِيَمِنــا، ولا تحل المشــاكل، بل تُعقّدهــا، وتجعل الصّعب مستحيـلا، بمـا تحمله من شحنة حقد تجــاه كثيـر من المتعــاطفين الأبريـاء، أنــاس أكثرهم قد لا يتّفقــون مع قيـاداتهـا، ولكنّهـم انخدعــوا بخطــابها المُنمّق لفرط طيبتهم ولظنّهم أنّهـا فعلا تدعو لإعلاء الحق والعدل.

لقد أظهـرت التّجربة أن لا شيء نهــائيٌّ في السّيــاسة، وأن ذلك الحزب القوي المنظَّم الجارف لكل من يقف أمــامه خسر ثلثيْ نــاخبيه بين 2011 و2019، وأصبح يلهث علـى إبرام تحــالفات مع أحــزاب اتّخذَ مُرشِدُهُ وعدا أمــام الملأ بعدم التّحــالف معها في سقطة أخلاقية مُدوّية بالنسبة لتنظيــم بَنَـى إيديولوجيته كذبا على أخلاق الإسـلام والقرآن القـائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”، لذلك فإنّ من تولّــوا التّجريـح في النّهضة سنة 2011، يكونـوا قد جرّحــوا في المليــون ناخب الذين انصرفــوا عنهــا، بمعنـى أنّ من نُجرِّحُهــم اليوم ليسوا بالضّرورة ممّـن يتبنّــون منهج النّهضة في ممـارسة السّلطة والإنحـراف بها، ولا قيــامها على العنف السيــاسي، وقد يكونون رفــاق الطّريق في الغد القريــب.

Nous vous accordons par ces présents documents, avec notre Autorité apostolique, la permission pleine et gratuite d’envahir, de rechercher, de capturer et de subjuguer les Sarrasins et les païens et tous les autres incroyants et ennemis du Christ où qu’ils soient, ainsi que leurs royaumes, duchés, comtés, principautés et autres biens […] et de réduire leurs personnes en servitude perpétuelle.

حركة النهضة حزب سياسي وطني ذو مرجعية إسلامية.

يعمل في إطار الدستور ووفقا لأحكام المرسوم عدد87 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلق بالأحزاب السياسية وفي إطار النظام الجمهوري على الإسهام في بناء تونس الحديثة، الديمقراطية المزدهرة والمتكافلة والمعتزة بدينها وهويتها وتسعى إلى ترسيخ قيم المواطنة والحرية والمسؤولية والعدالة الاجتماعية.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى