سياسة

بقلم عبد العزيز القاطري: درس فــي السّيــادة، لِمُتّخِذِي التبعيّة والخيـانة عـادة وعبـادة

طلب منّـي بعض الأصدقـاء نشـر ترجمة عربيّـة لمقـالي السّــابق : La Souveraineté pour les nuls et les traîtres الّذي نشرته علـى النسخة الفرنسية لهذا الموقع.

سأروي لكم حكـاية من زمن كــانت فيـه القيــادة، رغم أخطـائها، تعـي معنـى السّيــادة، ليس تمجيـدا لِمـاض مجيـد بذاته، ولكن عســى تكـون عبـرة لمن يعتبر.

يمتاز الغاز الطبيعي عن بقية الطاقات بإمكانية استعماله وهو خام مما يوفر عملية التكرير وما ينجر عنها من خسارة في الكمية ومن تكاليف باهظة ،غير أن نقله بالطرق الكلاسيكية (الصهاريج، البواخر المختصة …) يعتبر مكلفا جدا لا سيما وأنه يستدعى تحويله إلى سائل قبل الشحن (liquéfaction) ثم إعادة تحويله إلى غاز عند الوصول (regazéfaction  )  وهاتان العمليتان ،زيادة على كلفتهما ، تتسببان في نقص هام في الكميات (Pertes) .

لذلك فقد اتجه اختيار المتعاملين في هذا الميدان إلى اللجوء إلى نقل الغاز عبر الأنابيب لتجنب التكاليف والخسائر المشار إليها، حيث تسمح الأنابيــب بنقل الغـاز علـى حـاله بأقلّ التّكـاليف وبصفة مستمرّة بالإعتمــاد علـى تجهيزات قــارّة ودون الحــاجة إلـى الكثيـر من اليد العاملة.

نظرا لذلك وحال انطلاق المفاوضات الجزائرية الإيطالية في نهاية الستينات  بشأن نقل الغاز الطبيعي الجزائري إلى إيطاليا، وقع اختيار الطرفين على استعمال طريقة الأنبوب الغازي (Gazoduc)،  وكــان الحل الأمثل اقتصاديا وتقنيا يتمثل في مد الأنبوب عبر التراب التّـونسي.

وبعد إنجاز الدراسات التقنية اللازمة من طرف مكاتب عالمية مختصة ، انطلقت المفاوضات بين الأطراف الثلاثة في بداية السبعينات قصد إنجاز أنبوب غازي ينطلق من الجزائر مرورا بتونس ثم البحر الأبيض المتوسط فصقلية فمضيق مسينا وصولا إلى الأراضي القارية الإيطالية ، وقد آلت تلك المفاوضات إلى عقد اتفاق بين شركتي  SONATRACH  عن الجانب الجزائري وENI عن الجانب الإيطالي لغرض تصدير 12.5 مليار م3 سنويا  من الغاز الطبيعي الجزائري إلى إيطاليا لمدة 25 سنة وذلك في 1973.10.19 ، وبناء على ذلك الاتفاق أبرمت الدولة التونسية في 1973.12.12 اتفاقا مع ENI   يضبط شروط إنجاز واستغلال أنبوب غازي يعبر التراب التونسي ويسمح بتصريف الغاز الطبيعي الجزائري نحو إيطاليا مقابل ضريبة سنوية قدرت بـ 5 مليون دولار، علـى أن يساهم الطرف التونسي في تكـاليف الإنجاز وأن تتقاسم الدول الثلاث (الجزائر ، تونس ، إيطاليا ) ملكية الجزء من الأنبوب العابر للتراب التونسي .

وقد صادف أن تزامن انتهاء المفاوضات وإبرام عقد الإتفاق المشار إليه مع اندلاع حرب أكتوبر 1973 وأزمة الطاقة التي تلتها، لذلك لما تم عرض الإتفاق على الرئيس التونسي آنذاك من الأطــراف التّــونسية المتفاوضة، لفت انتباهه البند المتعلق بالملكية المشتركة للأنبوب من خطورة لاعتباره نيلا من السيادة التونسية، وقد مـرّ بذهنـه دون شكّ مـا قدّمـه المجــاهدون من تضحيـات بالنفس والنّفيـس من أجـل افتكـاك تلك السّيـادة من المغتصب الفرنسـي وأذنـابه البـايات، ولعله تذكــر الإعتداء الثلاثي على مصــر سنة 1956 من طرف بريطانيا وفرنسا بمساعدة إسرائيل،  بتعلّة ملكيتهمـا لقنـاة السّـويـس التـي منحهـا الخديوي اسمـاعيل بـاشا للأجـانب ، إثـر قيــام جمـال عبد النّــاصر بتأميـم قنـاة السّويـس.

وحكـاية الخديـويات هذه جديـرة بأن تروى ولو باقتضـاب: » عقب عودة نابليون إلى فرنسـا عام 1801 بعد فشل حملته على مصر التي استمرت 13 شهراً، أرسل دبلوماسياً اسمه ماتيو دي لسبس إلى مصر لاختيار والي لمصر موالي لفرنسـا يحكمها بعد أن قام الإنجليـز باختيار البرديسي، فوقع اختيار ماتيو دي لسبس علـى ضابط ألبـاني قريب من شيوخ الأزهـر يُدعــى محمّد علـي، فاصطفاه وقدم له المشورة والمساعدة وهو ما لم ينساه محمد علي، وعندما مات ماتيو دي لسبس تمّ تعيين ابنه الشاب فرديناند دس لسيبس قنصلا   مساعدا لبلاده  في الإسكندرية واستقبله محمد علي بحفاوة كبيرة وعرض عليه أن يعمل في القصر مربياً ومعلماً لابنه سعيد وعلى إثر ذلك توطدت عرى الصداقة بين الديبلومـاسي الفرنسي الشّـاب والأميـر الصّغيـر.

وبعد وفاة محمد علي الذي كـانت له اعتراضات على بناء القنـاة حيث اشترط موافقة اسطنبول، جاء ابنه سعيـد بـاشا إلى سُدة الحُكم، في وقت كانت أسرة دي لسبس تعاني الفقر والعزلة منذ سقوط الإمبراطـورية في فرنسـا، فما كان من دي لسبس إلا أن ركب أول سفينة متجهة من فرنسا للإسكندرية ليصلها في 7 نوفمبر 1854 ويلتقي بصديقه الذي أصبح خديـوي في 11 نـوفمبر، وهناك عرض دي لسبس مشروع حفر القناة على سعيد باشا الذي قبل فوراً ما كـان والده يرفضه، وكأنّ سعيداً أراد أن يُعبِّر عن امتنانه لصديقه القديم الذي كان يقدم له الأكل الذي حرمه منه والده داخل القصر «  (هكذا، عن ويكيبيديا).

ثمّ أُنجِزت القنـاة بعرق مليون ونصف من المصريّيـن من الكهـول وحتّـى الأطفـال، الذين سخرهم الخديوي بالقوة مقابل أجرة يومية تتراوح بين قرش وثلاثة قروش، يرسلون إلى منطقة القناة سيراً على الأقدام في أربعة أيام وهم مقيدين بالحبال، مــات منهم 125 ألف في الخنـادق مرضـا وجـوعا وإرهـاقا وعطشا بعد تخلي الشركة البـانية عن وعدها بحفر قناة ماء عذب لمد العمال بمياه الشرب، وتخلّي المركز الطّبي المُحدث للغرض عن علاجهم مقابل تكفله بالمرضى من المهندسين الأجـانب فقط، وكلّ من يحـاول الهرب تمسك به شرطة الخديـوي ويتعرّض لأبشع أنواع التعذيــب. ولم يجد الخديـوي ممثّل البـاب العالي العثمــاني غضاضة في منح الشّـركة التـي بنتهـا حق الإنتفـاع لمدّة 99 سنة وبشروط مجحفة لمصر، والطبيب المشرف وسام الشرف من طبقة فارس.

ورغم كل تضحيـات الشعب المصري، عـادت ملكية 56% من الشركة إلى الفرنسييـن عن طريـق مضـاربات في البـورصة، والـ 44% الّـتي تعـود لمصر اكتسبتـها بريـطانيا بشرائـها من الملك المصـري بأبخس الأثمـان لتغطية بذخـه وملذّاته وأخطـائه التّسييـرية، وذلك ستُّ سنوات فقط بعد الإنتهـاء من الأشغال.

كلّ ذلك مـرّ بذهن بـورقيبة عندمـا قدموا له الإتفـاقية لإمضـائها بعد أن صادق عليهـا البرلمان، فانتفض من مجلسه راميا بها عرض الحـائط، داعيا إلى ضرورة أن يكون الجزء من الأنبوب العابر للتراب التونسي ملكا للدولة التونسية، وإلّا »لاحلّت لا ربطت  «.

وأمام رفض الطرف الإيطالي تم صرف النظر عن المشروع، وتلا ذلك إبرام اتفاق ثنائي جديد في 1976.11.24 بين الجزائر وإيطاليا يتم بموجبه تسليم الغاز سائلا بميناء سكيكدة الجزائري ونقله بالبواخر المختصة إلى إيطاليا ، سرعان ما وقع التخلي عنه نظرا لكونه لا يسمح إلا بنقل 8.8 مليار  م 3 سنويا عوضا عن 12.5 ولأنه  يعني التخلي عن أحد الأهداف السياسية والاقتصادية للسلط الإيطالية المتمثل في المساهمة في تنمية جزيرة صقلية .

لذلك أخذ مجلس الشيوخ الإيطالي المسألة على عاتقه  آمرا الشركة الإيـطالية بتجديـد الإتّصــالات مع تـونس، وفي 08 جوان 1977 تم إبرام بروتوكول اتفاق يقضي باستئناف المفاوضات التي آلت إلى إبرام عقدين على التوالي الأول في 1977.10.22 بينSONATRACH  وENI والثاني في 1977.10.25  بين الدولة التونسية و ENI الّتـي تتكفّـل ببنــاء الأنبـوب، وينص الفصل الخامس من الاتفاق على وجوب مرور ملكية التجهيزات المنجزة إلى الطّرف التّـونسي  وذلك بعد ستة أشهر من بداية استغلال  الأنبوب بصفة  مستمرة، وعلـى انتفـاع تـونس بتعريــفة تنـاهز الـ6% من مجمـل الكمّيــات المنقـولة، مقــابل تسديــد كلفة الإنجــاز عن طريـق أجـزاء تُقتطَعُ من التّعـريفة المذكـورة.

بذلك، تكــون الدّولــة التّـونسية اليـوم المـالك الحصـري والوحيـد لكــامل الجزء من الأنبـوب العــابر لهـا، انطلاقا من دخـوله التّـراب التّـونسي عبر الحـدود مع الجـزائر الشّقيـقة، إلــى غــاية آخـر نقطة في الجرف القــاري المتوسّطـي الخــاضع لسيـادتها، دون أن يكلّفهـا ذلك ديـنارا واحدا، وبعـائدات قُدّرت سنة 2018 بـ524 مليـون ديـنار (183 مليون دولار).

لذا، علـى الّذيـن يعتبـرون تـونس اليـوم غنيمة حرب، أو إيــالة عثمــانية، أو ضيْـعة علـى ملك عائلات الغـاز والبترول، أو مستعمـرة للدّول الغربية، أو لقمة للكـوميسيون المـالي الجديـد، على جميـع المتردّديـن على عتبـات البلاطـات المكلفيـن بمهمّـة من طرف أسيـادهم، علـى جميـع المرسليـن من الشّـركـات الغربية لتكريـس النّهب والتّبعيّـة، عليهم جميــعا أن يعـوا أنّ تـونس لن تعدم بنــات وأبنـاء بررة، مُخلَصــون، أسيــاد لا تــابعـون، لِسِيــادتها حــافظـون، ولِحِمــاها حــامون، ولأعدائهــا قــاهرون.

 

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى