سياسة

بقلم عبد العزيز القاطري: دولة الحلّــوزي وسطيّش

لقد خلت أنّني بلغت أقصى درجات  القرف الّذي انتابني عند تعييــن الرّئيس لموظّف دون مؤهّلات كان يدير وكــالة الدّخــان  على رأس المعهد التّــونسي للدّراسات الاستراتيــجيّة، لكن عندما رأيت أحد بــارونات التّهريب المتوّج حديثا  بمقعد في البرلمان عن الحزب وريث التجمّع يتولّــى توسيــم أعــوان الدّيــوانة في عيد إدارتنا العتيــدة التي ضحّــى الكثير في سبيل تــونستها بعد الإستقلال ثم في سبيل تركيز دعائمها وتطويــرها غرقت في متاهة من الحزن، خــاصة أنه يأتــي بعد ثــورة يفترض أنّهــا قامت ضدّ بن علــي ومنظــومته الفــاسدة، فطفت إلى الذّاكرة ذكريات وقائع الفساد التي خلت أنها امّحت.

فــي منتصــف العشــريّة المــاضية وفــي خضــمّ تفشّي الفســاد في دولة الإستبــداد، تولّــى أعــوان الــدّيوانة رفــع قضيّــة ضــدّ أحد أكبــر بــارونات التّـــهريب والغـــشّ الــدّيواني والمعــروف لــدى عمــوم التّــونسيين بالسّيــطرة شبه المطــلقة علــى ســوق الفــواكه الجــافّة، وقد حجزوا فــي مخــازنه بجهــة السّــاحل الأطنــان مــن تلك المواد من فستــق إلــى بنــدق ومن  جــوز إلى لــوز وغيــر ذلك من الفــواكه الــتي يتــمّ التّصــريح المغلــوط بنوعيتــها أو بقيــمتها أو بوزنها بمنشــإها لغرض التنقيــص في الآداءات الواجب دفعها، وقد قُدِّرت القــيمة الجمليّــة للمحجــوز بـ10 ملاييــن دينارا، نعم، 10 مليارات مـن الملّيــمات.

كنــت ضــابطا ساميا في الدّيــوانة برتبة مقدم دون تقــدّم منذ 10 سنــوات لأسبــاب ليـس هنا المجــال لذكــرها، وكنت مكلّفــا بنيابة مديــر التّفقّديــة العــامّة للدّيــوانة الكــائن مقــرّها آنذاك بشــارع مدريــد وعضــوا بصفتــي تلك فــي لجنــة النّــزاعات، منهمــكا فــي التحقيــق في التجــاوزات والإخلالات التي يقوم بها الأعوان بمختلف رتبهم، عندما رن الهــاتف وتمّت دعــوتي من طــرف كتــابة المديــر العــام للحضــور حــالّا إلـى مقرّ الإدارة العــامة بنهــج إشبيلية قــرب الـSTEG  للمــشاركة فــي اجتماع طــارئ لتلك اللجــنة.

كنــت آخر الحــاضرين لأن أغلــب الأعضــاء يعملون على عين المكــان، فبــادر رئيــس اللّجنــة بإعلامــي بفحــوى الإجتمــاع، ألا وهــو النّظر فــي مطلب تقدّم به ذلك التــاجر-المهرّب قصــد رفع اليــد على البضــاعة، مضيــفا وهو يرمق الحضــور من تحت نظّــاراته أنّ الحــاجزين قاموا ببعض الأخطــاء الإجرائيّة ســواء عند تحرير المحــضر أو عند حجز البضــاعة. ووسط صمت بقية الأعضــاء، تنــاولت الكلمة للقــول بأنّنــي لم أطّلع على ملفّ القضيّة حتــى يتسنّــى لي إبداء الرّأي حول تلك الأخطــاء، فأجــابني بشيئ من الإمتعــاض أن ذلك حــال جميــع الأعضــاء، ولــسان حــاله يقــول لمــاذا أنت الوحيــد الذي أشــرت لذلك، مـواصلا أنّه ليس من مصلحة الإدارة التّصعيــد في هذه القضية، وأنّ التّــونسيين مقدمــون على الإحتفــالات بالــمولد النبوي الشّريــف وإذا تــواصل حجــز المواد فإنّ أســعار الفــواكه الجــافة ستشــهد التهــابا غير مسبــوق وسيتضرّر المستهلكون وخــاصّة أصحــاب  الدّخل المحدود جرّاء ذلك، وأنّ تواصل مكوث البضاعة قيــد الخزن قد يتسبّب في تلفها ومــا إلى ذلك من الحجج الــواهية التي يهدف من ورائها إلى إقناع الأعضــاء بوجــاهة مطلب رفع اليــد، وخــاصة منها أنّ المعنــي بالأمــر يعرض إيداع جزء من قيمتها كضمــان لدى قــابض الدّيـوانة لقاء البضــاعة، وأن الّلجنة تجتمع لتحديــد نسبة ذلك الضّمــان.

كــان من ضمن الحضــور ممثّلــون عن إدارات مكــافحة الغش والتّهــريب التي أثــارت القضية ورفعت المخــالفات وحجزت البضاعة، ومديــر النزاعات ومســاعده، ومــع ذلك لم يُبدِ أيّ منهم أي احتراز على ما عُرِض عليهم مكتفين ببعض الملاحظــات غير ذات الأهمّية. كــان جميــعهم يعلم أنّ قرار رفع اليد تم اتّخــاذه بعد وأنّ الغرض من الإجتماع لا يعدو إلّا أن يكون إضفــاء الشرعيّة على ذلك القرار، كما يعلم الجميــع سطوة ذلك المــراقب العــام ويتفــادى إزعــاجه خوفــا من قدرته على نقــلة أي منهم متــى شــاء أو تعطيــل ترقيتهم أو سحبهــم من قائمــات الأوسمة وغيــر ذلك من الإجــراءات التّعسفية التــي دأبت عليها إدارة بن علــي وزبانيته لــزرع الرعب في الموظّفيــن، خــاصة أنّه لــن يعدم أسبــابا لذلك بالرجــوع إلى الملفّــات السرّية التــي كوّنها جهاز إداري تمّ بعثه للغــرض عن جمــيع الأعوان. لذلك، يلتــزم الجميــع صمتــا ما أبلغه فــي إطــار عقد ضمني يتغــاضى فــيه البعــض على البعض، بينمــا لم يكن لدي الكثيــر لأخسره بعد أن قضيت 20 سنة من نقلة تعسفية إلى أخرى قادتني للعمل بأغلب منــاطق الجمهــورية وتسببت في تشويش دراسة أبنائي وحرمــانهم من الإستقرار.

لذلك قلت له وقد بدأ الإحتقــان يسود قــاعة الإجتمــاع: إن كــان ولابدّ من رفع اليــد، فإنه لا منــاص من تأميــن مبلـغ مــالي يغطّــي القيــمة الجمليّة للبضــاعة ليقــوم مقــامها، خــاصّة أن طلبــات الإدارة للمحكمة لا بدّ أن تتضمّن استصفــاء البضاعة لفــائدة الخزيــنة.

أجــابني بلهجة وقسمات من قد بدأ صبره ينفذ: سي عبدالعــزيز، هكذا أنت دائما، تخــالف الرّأي وتخرج عن المجموعة، فأجبته بنفس اللّهجة: المجمــوعة لم تتكلّم إلى حد الآن ولا نعرف رأيها، لكن الأكيــد أنّنــي لست مستعدّا لتحمّل التّبعــات القــانونيّة للتّفريــط في بضــاعة محل مخــالفات ديوانية واضــحة، ولن أمضي على محضــر جلسة يكــون في هذا الإتّجــاه، وفــي كل الحــالات أنت والمديــر العــام بقدرتكمــا أن تتّخذا قرارا برفــع اليد دون الحــاجة إلى رأي هذه اللّجنة.

إنتهــى الإجتمــاع دون أخذ أي قــرار في جو من الإحتقــان بعــد أن أخفق الجمــاعة في الحصــول على الضّــوء الأخضر لخدمة بارون التّهريــب، ولا أعلم لحدّ السّــاعة ما كــان مآل البضــاعة ولا القضية.

كلّ ما أعلمه أنّه في نفس السّنة تولّــى رئيــس الجمهــورية توسيــم ذلك التّــاجر بمنــاسبة عيد الشغل مكــافأة له عــلى الخدمــات الجليلة التي قدّمهــا للوطن، يعنـي لبن علي وعــائلته وأصهــاره وحزبه، فــي رسالة واضحة لجميــع أعــوان الدّيــوانة الّذيــن قد تحدّثهم أنفسهم بالتّعرض مجدّدا له، وأنّنــي أمضيت 5 سنوات فــي نفس الخطّة وفي نفس الإدارة التــي يعتبرها الجميــع ثلّاجة. كان ذلك يــوم أسود آخر في تاريخ تــونس شعرت فيه أن ذلك النظام آيل للتّداعــي عمّــا قريب.

اليــوم ينتــابني ذلك الشّعــور.

  بقلم عبد العزيز القاطري

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى