تبلورت ملامح المشروع الجزائري “بناء الجزائر الجديدة” من خلال رؤية استراتيجية أعلن عنها الرئيس عبد المجيد تبون في بداية عهدته الرئاسية منذ خمس سنوات مضت. نقف اليوم على أهم الانجازات والمشاريع المنبثقة عن هذه الرؤيا في مختلف ربوع الجزائر، لمعاينة ما تم تجسيده منها و الآفاق المنتظرة.
تتمثل أبرز الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الجزائر أساسا في تبني دستور جديد يرسم معالم دولة جديدة، وسعى إلى تجسيد طموحات الجزائريين وتطلعاتهم. وتبرز أهمية دستور 2020 من حيث التعديلات التي تضمنها وشملت القانون الانتخابي والتغيير في بناء الطبقة السياسية لاحقا.
في طموحها لإقرار الإصلاحات السياسية والمؤسساتية، سعت الجزائر لخوض غمار إصلاحات اقتصادية واسعة، بغية تنويع المداخيل والتقليل من التبعية للمحروقات، وبرزت ملامح هذا الاتجاه في قانون الاستثمار الجديد الصادر في 2022، الذي احتوى على تسهيلات للمستثمرين الجزائريين والأجانب، إضافة إلى وضع منصة رقمية للمستثمر.
سمح هذا القانون بتوفير ما يقارب 200 ألف منصب شغل وتسجيل أكثر من 7 آلاف مشروع استثماري جديد لدى الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، مما يؤشر بشكل إيجابي لعودة الثقة في مناخ الاستثمار في الجزائر.
تم تسجيل ارتفاع في الناتج الوطني الخام PIB إلى ما يقارب 270 مليار دولار مع استقرار في نسبة النمو بحوالي 4% فضلا عن ارتفاع في قيمة الدينار الجزائري.
دينامكية وحيوية
من زاوية المقاربات الاقتصادية الحديثة، تراهن الجزائر على الاقتصاد الأخضر كطريق نحو المستقبل، فهي تواجه تحديات ورهانات تطوير الاستثمار والأعمال في مجال البيئة والطاقات المتجددة، وتطمح إلى بناء تصور واضح حول فرص تنميتها وتطويرها واستدامتها.
يشكل تحدي التحول الطاقوي والبيئي، انشغالا متواصلا لسلطات هذا البلد الجار، ما يفسر تسريع تنفيذ التزامات هذا التحول، بما في ذلك الالتزام 21 المتعلق بتشجيع استعمال الطاقات المتجددة والالتزام 33 المتعلق بضمان إطار معيشي للمواطن يحترم متطلبات التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة. يهدف هذان الالتزامان إلى تبني نمط اقتصادي جديد خارج المحروقات، وما يرتبط به من صناعات، فهو يعتبر “اقتصاد المستقبل” وأحد السبل لتحقيق التنمية المستدامة.
تتجه الجزائر اليوم نحو الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة المائية، وطاقة الكتلة الحيوية. بغية تنويع مصادرها الطاقوية، وهو توجه يندرج ضمن الحركية العالمية الرامية إلى الحد من انبعاثات الغازات والتخفيف من آثار التغيرات المناخية. وقد قامت بتنصيب أعضاء المجلس الأعلى للطاقة، الذي كلف بتحديد توجهات السياسة الطاقوية والأمن الطاقوي للبلاد وضبط السوق الوطنية في هذا القطاع، فضلا عن إنشاء وزارة للانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة.
في نفس السياق شرعت الجزائر في إنشاء مشروع “سولار 1000 ميغاواط” أو مشروع الطاقة الشمسية 1000 ميغاواط. يهدف المشروع إلى تركيب 15000 ميغاواط من المصادر المتجددة للطاقة بحلول سنة 2035.
توجه الجزائر لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر
توجهت الجزائر حاليًا إلى تطوير إنتاج الهيدروجين الأخضر والاستثمار في الإمكانات التي تتوفّر عليها، لتحقيق الأهداف التنموية، ضمن خطتها للتوجه نحو بدائل عن المحروقات التقليدية، وقد وضع رئيس البلاد الهيدروجين الأخضر على رأس قائمة المصادر الرئيسة لتحوّل الطاقة، على غرار الدول المتقدمة، وتعمل حاليا من خلال الإستراتجية الوطنية للطاقات المتجددة على إحداث دينامكية كبيرة سمحت باستحداث شُعب جديدة في قطاعي التعليم العالي والتكوين المهني. وتعمل حاليا وفق مخطط يتضمن إنجاز أربعة مشاريع مع شركاء أجانب، علما وأنها سجلت ارتفاعا في الحجم العام إلى 589.7 ميغاواط، منها 460.8 ميغاواط خارج الطاقة الكهرومائية التي تشمل 422.6 ميغاواط متصلة بالشبكة و 38.2 ميغاواط خارج الشبكة.
كشف تقرير لمرصد الطاقة العالمي نشره على موقعه الالكتروني، أن الجزائر من بين الدول العربية التي رفعت قدراتها في مجال الطاقات المتجددة بنسبة تقارب 50 بالمائة، لتصل إلى 20 ميجاوات بين عامي 2022 و2023.
مشاريع كبرى تم إطلاقها خلال السنوات الأخيرة في الجزائر
وبالعودة إلى المشاريع الكبرى التي تم إطلاقها خلال السنوات الخمس الأخيرة في الجزائر، يمكن إيراد أكبرها وأهمها و هي:
1- مشروع مركب “بلارة” للحديد والصلب بمدينة جيجل، الذي يتربع على مساحة تقدر ب 216 هكتار. يطمح المشروع إلى إنتاج 8ر1 مليون طن من الحديد برقم أعمال يقارب 160 مليار دينار جزائري.
2- مجمع “توسيالي” الجزائر للحديد والصلب, هو استثمار اقتصادي ناتج عن شراكة استراتيجية جزائرية-تركية، تمكنت من احتلال مراتب هامة إفريقيا ومتوسطيا في مجال الحديد والصلب. فقد تمكن هذا المجمع من تصدير منتجاته نحو 24 دولة، ويطمح إلى بلوغ 2 مليار دولار من الصادرات.
3- منجم الحديد بغار جبيلات من أكبر الاستثمارات المنجمية بالجزائر منذ الاستقلال، يعول عليه لدفع عجلة التنمية في منطقة الجنوب الكبير.
4- مؤسسة الاسمنت ومشتقاته بمدينة الشلف، التابعة لمجمع “جيكا”، ارفعت من وحداتها الإنتاجية في السنوات الأخيرة.
5- المصنع الجديد لمعالجة مادة كربونات الكالسيوم بولاية معسكر، وهو الأول من نوعه في الجزائر، ويهدف إلى إنتاج هذه المادة محليا بعدما كانت تستورد من الخارج.
6- انجاز وحدة لتعزيز الغاز مزودة بأحدث التكنولوجيات بمشاركة 20 مؤسسة جزائرية بمنطقة حاسي الرمل بولاية الأغواط، وهي تضم أكبر الحقول لإنتاج الغاز الطبيعي بالبلاد، تهدف هذه الوحدة إلى تطوير القدرات الإنتاجية للحقل.
7- استفادة مركب “الوطاية” التابع للمؤسسة الوطنية للملح بولاية بسكرة من رخصة استثمار استثنائية، بحيث يتمتع بقدرة إنتاج تقدر ب 80 ألف طن سنويا، تسمح له بتغطية احتياجات السوق الوطنية من المواد الصناعية والغذائية وشبه الصيدلانية والتقليص من فاتورة الاستيراد والتوجه إلى التصدير نحو الدول الإفريقية والأوروبية.
الأهمية الإستراتيجية للقطاع الفلاحي
الاهتمام بالقطاع الفلاحي، في إطار مقاربة تنويع الاقتصاد الوطني، حث الجزائر على إقامة مشاريع فلاحية استراتيجية، مع قطر لإنتاج مسحوق الحليب في جنوب البلاد، بتكلفة بلغت 3.5 مليار دولار و كذلك مع إيطاليا في مجال الزراعة الصحراوية. مع الاهتمام أيضا بإنشاء بنك للبذور وإعطاء دور جديد للمزارع النموذجية والترخيص باستيراد العتاد الفلاحي المستعمل، وإعطاء الأهمية للشعب الفلاحية الإستراتيجية.
قطاع النقل والمواصلات من القطاعات الحسّاسة الذي عرف خلال السنوات الأخيرة نقلة نوعية يمكن التفصيل بخصوص جانب بارز منها وهو النقل بالسكك الحديدية مما يعكس التوجه الجديد للدولة الجزائرية.
عرف برنامج تطوير البنية التحتية للسكك الحديدية “دفعة قوية” منذ سنة 2020، بفضل توفير الاعتمادات المالية اللازمة التي سمحت برفع طول الشبكة إلى 4722 كلم، وهي مرشحة لتبلغ 6500 كلم عند استلام البرنامج الجاري إنجازه، و15000 كلم في آفاق 2030. فقد تم إنجاز 710 كلم من السكك الحديدية في سنة 2023، فضلا عن إنجاز 40 محطة عصرية لنقل المسافرين والبضائع مع تشكيل لجنة خاصة لمتابعة مشاريع إنجازها.
مشاريع هامة سيستلمها قطاع السكك الحديدة خلال هذه السنة، منها:
• مشروع المقطع الجنوبي للخط المنجمي الشرقي (تبسة-عنابة)، الذي يمتد من جبل العنق إلى واد الكبريت على مسافة 177 كلم.
• مشروع ربط المنطقة الصناعية “بطيوة” (وهران) بشبكة السكة الحديدية على مسافة 7 كلم، وكذا مشروع عين البيضاء-خنشلة على مسافة 51 كلم،
• إنجاز أشغال ازدواجية الخط وتجديد أنظمة الإشارة والاتصالات، مع العمل على استكمال رواق الهضاب العليا الذي يمتد من تبسة شرقا إلى سيدي بلعباس غربا بطول 1162 كلم
• رواق الهضاب الذي يمر عبر 22 ولاية، لم يتبق لاستكماله سوى 60 كلم فقط (بين تيسمسيلت وتيارت)، مع تقدم الأشغال في هذا المقطع بنسبة 68 بالمائة، وتم إنجاز عدة نقاط ربط بين رواقي الشمال والهضاب، بمعدل نقطة ربط كل 150 كلم.
• إيصال خطوط السكة الحديدية إلى أقصى الجنوب، عبر خمسة أروقة، حيث يمتد الرواق الأول على مسافة 2439 كلم ليربط بين الجزائر العاصمة والحدود الجزائرية-النيجرية، فيما يمتد الرواق الثاني على مسافة 2480 كلم، انطلاقا من وهران إلى الحدود الجزائرية-المالية.
• أما الرواق الثالث, فيمتد من ميناء أرزيو (وهران) إلى غار جبيلات (تندوف) مرورا ببشار على مسافة 1650 كلم. و يأتي مشروع إنجاز خط السكة الحديدية بشار-تندوف-غار جبيلات، الذي يعد امتدادا لهذا الرواق، على مسافة 950 كلم، و قد أشرف الرئيس عبد المجيد تبون على وضع حجر أساسه نهاية نوفمبر 2023، كواحد من أضخم المشاريع التي ستجسدها الجزائر في هذا المجال باعتباره سيفتح آفاقا تنموية واعدة بالاعتماد على تثمين الثروات المنجمية بالمنطقة.
• أما الرواق الرابع، فيمتد من ميناء جنجن (جيجل) إلى ولاية جانت على مسافة 2275 كلم، مع تضمنه رواق فرعي يمتد من حاسي مسعود إلى الحدود الجزائرية-الليبية على مسافة 520 كلم، فيما يمتد الرواق الخامس من عنابة إلى توقرت على مسافة 780 كلم.
مشاريع تنموية أخرى
* انخرطت الجزائر في مشاريع حيوية أخرى منها إنجاز محطات تحلية المياه لمواجهة الشح المائي مستقبلا.
* إيلاء العناية الكبيرة لتنمية المناطق الهشة في البلاد أو ما اتفق على تسميته بمناطق الظل.
* إصدار التعليمات بترشيد عمليات الاستيراد ومراجعة لاتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بما يخدم مصلحة البلاد العليا، وفتح شراكات اقتصادية إستراتيجية مع دول أخرى كتركيا و قطر في إطار تنويع الشراكات.
توزيع أكثر من ربع مليون سكن بمناسبة عيد الاستقلال
8- مع حلول ذكرى عيد الاستقلال هذه السنة أعطى الرئيس عبد المجيد تبون إشارة انطلاق توزيع أكثر من ربع مليون سكن (251 890 سكن) بمختلف الصيغ على المستوى الوطني. وصرح الرئيس الجزائري بهذه المناسبة: ” ولا يوجد أي بلد في العالم يمكنه منافستنا في هذه الأرقام لا في الدول العظمى أو الصغرى”، ثم توجه بالتهنئة للمواطنين الجزائريين حيث قال: “هنيئا للجزائريات والجزائريين بسكناتهم وسنواصل في هذا المنوال حتى نغطي كل حاجيات المواطنين، السكن هو الأساس في بناء اقتصاد قوي والسكنات هي الآن جزائرية 100 بالمائة”.
أهمية ملف الذاكرة الوطنية
بعيدا عن عالم الاقتصاد والمشاريع الصناعية الكبرى، تهتم الجزائر بملفات أخرى لا تقل أهمية، منها ملف الذاكرة الوطنية، فهو من أبرز الملفات التي عكف الرئيس عبد المجيد تبون منذ توليه رئاسة البلاد على متابعته بالنظر للأهمية التي يكتسيها، مع إصدار قرارات بعدم التفويت أو التنازل عن المسائل التاريخية واستمرار المطالبة بالاعتراف بالجرائم المرتكبة في حق الشعب الجزائري إبان الفترة الاستعمارية.
السياسة الخارجية للجزائر ودعم القضايا العادلة في العالم
تولي الجزائر عناية بالغة لعلاقاتها الخارجية ولسمعتها المتجذرة كدولة تحترم كل الدول في إطار اعتزازها واعتمادها على مبدأ السيادة الوطنية في القرارات المتخذة، وتضمن لأبنائها الحرية والسيادة حيثما كانوا.
الرؤية الجزائرية تجمع بين تحسين الداخل والمحافظة عليه والاستثمار في الجوار المغاربي والإفريقي، ومنها إنشاء مناطق للتجارة الحرة مع الدول الحدودية تونس وموريطانيا والنيجر ومالي.
سعت الجزائر مؤخرا في إطار تكتل ثلاثي مع تونس وليبيا إلى تعزيز سبل التنسيق والتشاور مع هذين البلدين الجارين في القضايا ذات الاهتمام المشترك على غرار ملف الهجرة غر النظامية. حيث وضع هذا التكتل آلية للتنسيق والتشاور المستمر بينها خدمة لمصالحها الإستراتيجية.
تظل الجزائر وفية لنهجها منذ الاستقلال في تبني علاقاتها مع جوارها الجهوي والدولي في كنف حسن الجوار والاحترام الذي تتمتع به حتى مع خصومها، انطلاقا من كونها بلد يسعى لإرساء السلم في العالم. كما تبقى مساندة لكل القضايا العادلة والشعوب المناضلة من أجل حريتها، وفي نفس المقام ترفض اللجوء لاستخدام الحلول العسكرية في العالم.
تغييرات على المستوى الجيوسياسي، والذي بدأت بوادره الخطيرة تظهر في محاولة لإعادة رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يحضى بمتابعة دقيقة من الجزائر وتونس على حد سواء. حيث دعتا إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي وفسح المجال للقارة الإفريقية حتى تكون لها عضوية دائمة فيه.
تدعم الجزائر القضية الفلسطينية من منبر عضويتها غير الدائمة لمجلس الأمن الدولي لسنتي 2024-2025 و كذلك الشأن بخصوص قضية الصحراء الغربية.
هذه مجموعة من المحطات التي تميز الجارة الجزائر، و هي تحيي الذكرى 62 لاستقلالها، و إذ نهنئها بهذه المناسبة الهامة، نتمنى لها مزيدا من الازدهار وللشعب الجزائري الشقيق الرقي والتقدم.
لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات