الكاريزما من تلك الكلمات الغامضة التي يفهمها الجميع بشكل فطري دون القدرة على تحديد معناها بدقة. اليوم، تُربط غالبًا بقدرة الفرد على الإلهام أو الجذب، غير أن جذورها تمتد إلى قرون سحيقة، إلى بدايات التاريخ المسيحي. فما هي الكاريزما؟ من أين أتت؟ وماذا تكشف لنا عن السلطة والمجتمع؟
من النعمة الإلهية إلى الهبة الفردية
كلمة «كاريزما» مشتقة من الكلمة اليونانية charis، التي تعني «النعمة» أو «الهبة». في رسائل الرسول بولس التي كُتبت قرابة سنة 50 ميلادية، كان المصطلح يشير إلى عطايا إلهية يمنحها الروح القدس مباشرة، مثل النبوة والشفاء ونقل المعرفة.
في تلك المرحلة، لم تكن الكاريزما مرتبطة بالقيادة أو الهيمنة، بل كانت تهدف إلى إثراء الجماعة المسيحية. ولم يبدأ هذا المفهوم في التحوّل نحو منطق السلطة إلا في القرن الرابع، مع صعود المؤسسة الكنسية، التي استعادت الكاريزما ضمن نظام سلطوي يخدم البنية الهرمية للكنيسة، على حساب معناها الروحي الأصلي.
إرث أعاد صياغته ماكس فيبر
بعد قرون من التهميش، أعاد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في القرن العشرين إحياء مفهوم الكاريزما، لكن في سياق علماني. فقد ميّز بين ثلاثة أنماط من السلطة: التقليدية، والقانونية-العقلانية، و… الكاريزمية. واعتبر أن الأخيرة تقوم على الاعتراف بشخص ما على أنه استثنائي، يتمتع بصفات تكاد تكون فوق بشرية.
وكان فيبر يرى في هذه الشخصيات المضادة للبيروقراطية أدوات لتجديد النظام. لكنه لم يعش ليشهد تحوّل نظريته إلى أداة في يد زعماء مثل موسوليني وهتلر، الذين استخدموا الكاريزما وسيلة للتلاعب الجماهيري.
صفة نادرة… ومُزدوجة الأثر
اليوم، يُنظر إلى الكاريزما غالبًا كميزة إيجابية. فهي تدل على حضور طاغٍ يصعب تقليده. سياسياً، تُجسّد شخصيات مثل جون وروبرت كينيدي، وباراك أوباما، وحتى إيمانويل ماكرون، هذا النوع من القيادة الملهمة. أما في عالم الأعمال، فغالبًا ما يُستشهد بستيف جوبز كنموذج للقائد الكاريزمي، الذي جمع بين الرؤية والغرابة.
في مجال الترفيه، أصبحت الكاريزما علامة نادرة ترتبط بالأصالة، في وقت تنتج فيه برامج تلفزيون الواقع نجوماً عابرين بلا جاذبية حقيقية.
الكاريزما… هبة ذات حدّين
هل ينبغي لنا أن نتمنى زعماء يتمتعون بالكاريزما؟ ليس بالضرورة. فبعض المحللين، مثل كاتب السيرة ديفيد بارنيت، يعتبرون هذا النوع من القيادة من أكثرها خطورة على الديمقراطية. فهي تغري، لكنها تُفرّق. ويُظهر مثال سيلفيو برلسكوني في إيطاليا، ومارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، كيف يمكن للكاريزما أن تزرع انقسامات دائمة داخل الأحزاب أو المجتمعات.
وعلى النقيض، برزت شخصيات مثل أنغيلا ميركل، التي كثيراً ما وُصفت بالبراغماتية الخالية من الكاريزما الفاقعة، لكنها استطاعت رغم ذلك أن تُلهم الثقة والاستقرار. الدرس هنا: الإلهام لا يكفي، فالتوقع والصرامة لا تقلان أهمية.
اللغز ما زال قائماً..
الكاريزما لا تزال تثير التساؤل. هل هي موهبة فطرية؟ أم مهارة مكتسبة؟ أم وهم جماعي؟ إنها تفتننا لأنها تلامس شيئاً عميقاً في طبيعتنا البشرية: حاجتنا للإيمان، للإعجاب، وأحياناً… للاتباع.
ولدت في سياق روحاني، ثم تحوّلت إلى أداة للسلطة، وها هي تقطع ألفي عام دون أن تُفهم بالكامل. ولعل هذا الجانب المظلم هو ما يمنحها كل تلك القوة.
لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات