مجتمع

الأرشيف الوطني: لكي يبقى الصندوق الأسود للجمهورية بعيدا عن التجاذبات ومحاولات السيطرة

الأرشيف الوطني مؤسسة وطنية سيادية بامتياز تتمثل مهمتها الأساسية في حفظ الوثائق التي تنتجها الإدارة التونسية وتعود أقدم هذه الوثائق إلى عدّة قرون خلت وهو ما يعكس عراقة الإدارة التونسية وحرصها على تدوين نشاطاتها. ونظرا لتنوع الأنشطة الإدارية تنوعت أهمية هذه الوثائق. فمن الوثائق العادية التي تعكس النشاط اليومي إلى تلك التي تكتسي الصبغة الأمنية أو العسكرية أو السياسية.

وفي هذا الإطار تمّ وضع تصنيفات للوثائق، على غرار كثير من دول العالم خاصة المتحضّر، على أساس أهميّة محتواها ودرجة سريّته. ويقترن ذلك في الممارسة الإدارية العادية بأختام التصنيفات الموضوعة على الملفات أو الظروف وفي ذهن الجمهور بتصنيفات من أهمها “سري للغاية“.

هذه الأهمية التي تكتسبها الوثائق في إطار أنشطة الدولة والإدارة تحوّلت إلى مصادر للبحوث العلمية والدراسات والتاريخية باعتبارها الأكثر تعبيرا عن الحركية السياسية والاجتماعية وكذلك الأكثر مصداقية وتنوعا كما أصبحت مصدرا لدراسة التراث الوطني. وباختصار، فإنّ الأرشيف الوطني يحفظ ذاكرة البلاد ويضمن للأجيال الحالية والقادمة الحق في معرفة حلقات وأحداث هامة من تاريخ تونس.

مهام استراتيجية ورهانات خطيرة

من مهام الأرشيف الوطني حماية الوثائق وتوفيرها للعموم في إطار ما يخوّله القانون. فمرور الزمن لا يعني أنّ الوثيقة تفقد تأثيراتها في الزمن الراهن لذلك تكتسب الوثيقة أهميتها من تأثيرها في مختلف المجالات. فعلى سبيل المثال، من الوثائق التي أثارت جدلا طويلا بين التونسيين، نذكر “بروتوكول الاستقلال” والذي ينقسم إلى وثيقتين وثيقة أولى تعلن عن مشروع البروتوكول ووثيقة ثانية هي البروتوكول ذاته.

وفي حين أنّ الوثيقة الأولى لا تتعدى الصفحة الواحدة في حين البروتوكول يتجاوز 200 صفحة الا أنّ الأرشيف الوطني وضع في موقعه الوثيقة الأولى ممّا يوحي بأن البروتوكول لم يتم وإنّما بقي مجرد وعد وهو ما أثار اللغط السياسي الذي شاع بين الناس وساهم في تفاقم الاستقطاب منذ سنوات وربما إلى اليوم وقسّم شرائح المجتمع بين مشكّك في استقلال البلاد ومصدّق له في حين كان على مؤسسة الأرشيف وضع البرتوكول برمته لدرء الجدل حتى يتمكن التونسيون من الاطلاع عليه مع أن عرض مثل هذه المعطيات والوثائق بصفة مقتضبة قد يهدد أمن البلاد برمته في الداخل والخارج في ظل إدارة عاجزة عن تحديد خطورة بعض الوثائق أو المراهنة عليها للحساب الفردي أو الحزبي.

ومن يعرف مفهوم الإدارة يعرف جيدا بان الأرشيف يحتوي وثائق قد تهدد علاقاتنا الخارجية وأمننا الوطني في ظل سلوك عام يعبّر عن الاصطفاف الحزبي تارة والانخراط في الجدل السياسي العقيم طورا.

غياب الإفصاح

منذ 2011، لم يحقق الأرشيف الوطني ما من شأنه أن يمكّنه من احتلال مكانته الأصلية كمؤسسة تحفظ ذاكرة التونسيين وتضمن حقّهم في المعرفة. ومن بين النقائص الكبرى غياب سياسة الإفصاح في الموقع الإلكتروني للأرشيف الوطني والذي كان من المفترض أن يعكس مكانة المؤسسة نجده فارغا من كل معطى مفيد.

ورغم أنّ الإدارات والمؤسسات العمومية أودعت أجزاء هامة من ملفاتها في الأرشيف الوطني، فإنّ المواطنين والباحثين لا يجدون أيّ معلومة عن هذه الملفات، بل إنّهم يعلمون بذلك مصادفة عن طريق الصحافة في إطار الجدل السياسي. ومن ذلك على سبيل المثال أرشيف هيئة حقيقة وكرامة الذي لم تفصح إدارة الأرشيف عن إيداعه لديها في موقعها الرسمي ومآل أرشيف رئاسة الجمهورية، ممّا يدفع إلى التساؤل عن الملفات الأخرى المودعة في الأرشيف الوطني والتي لم يفصح عنها ومنها أرشيف وزارات سيادية هامة.

وليس سرّا أنّ موقع الأرشيف الوطني من أكثر المواقع الإلكترونية الرسمية رداءة، فلا وثائق ولا قاعدة للبيانات وروابط لا تعمل ولا معلومات قيّمة ترشد المواطن والباحث. فهو موقع رديء لا يرقى الى مواقع مؤسسات وطنية أخرى مشابهة فما بالك بأرشيفات عالمية أخرى. وتدفع ضحالة الموقع وسوء تسييره إلى الدهشة والاستغراب.

الأرشيف الوطني في قلب الصراع السياسي بين أجنحة التوافق

إن الأرشيف الوطني بما يحتويه من أرصدة ذات بعد استراتيجي هو في الحقيقة ورقة مهمة في الصراع السياسي الوطني والدولي وقد يكون مؤثرا تأثيرا حاسما في المعارك السياسية ونتذكر في هذا السياق ما أقدمت عليه سهام بن سدرين من محاولة وضع اليد على أرشيف رئاسة الجمهورية في إطار الحرب بين الأطياف السياسية المتنافسة على السلطة بعد 2011.

وفي تلك الظرفية انحازت الأطراف المشرفة على الأرشيف الوطني إلى جناح الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي في المقابل ظهرت سهام بن سدرين إلى جانب راشد الغنوشي في إطار الحرب من أجل وضع اليد على الأرشيف.

وعند احتداد الصراع بين جناحي التوافق في المنظومة القديمة بين محسوبين على حزب حركة النهضة من جهة وحزب نداء تونس، اندلعت مواجهة حامية بين هيئة حقيقة وكرامة من جهة والأرشيف الوطني من جهة أخرى ووصل الخلاف إلى حدّ تبادل التهم الخطيرة بين المسؤولين عن الهيئة والأرشيف الوطني. وبعد ذلك طويت الصفحة في إطار التوافق ووسّم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي مدير الأرشيف الوطني في 9 ديسمبر 2016 ممّا يثير التساؤل حول أسباب هذا التوسيم في خضم صراع سياسي محتدم حول الأرشيف بين الأجنحة المتنافسة في منظومة الحكم آنذاك ويعزز الاعتقاد أنّ التوسيم سياسي بامتياز.

إنّ الأرشيف ورقة محورية في التوازنات السياسية ويعدّ ذا بعد سياسي ويخضع مباشرة لقرار سيادي ولا ندري سرّ غفلة المسؤولين عن الشأن العام عن هذه المؤسسة بعد 25 جويلية 2021. ورغم تعاقب 8 حكومات منذ 2011 إلى اليوم، لم يفتح ملف الإشراف على الأرشيف الوطني ممّا يطرح تساؤلات واستفهامات كثيرة.

فمن المرجح أن تكون المسألة مرتبطة بالتموقع الحزبي والسياسي، فتارة يطفو على الأرشيف على سطح الأحداث وفي غالب الوقت يدخل في سبات عميق وكأنّ المهمة محصورة في الجدل السياسي والحزبي.

منشورات سياسيّة بامتياز

رغم قلّة المعلومات عن الأرشيف الوطني وندرة منشوراته، نجد من بينها كتاب “البعد الإفريقي في السّياسة الخارجية التونسية” الصادر في سنة 2017 الذي قدّم له الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ممّا يعزز الاعتقاد بوجود إرادة سياسية للزجّ بالمؤسسة في التجاذبات السياسية الخطرة على ذاكرة التونسيين وتاريخهم.

ملف أمن قومي يجب أن يكون على مكتب رئيس الجمهورية

يحدّد الخبراء مفهوم الأمن القومي باعتباره مجمل القيم والسياسات المتعلقة بضمان وجود الدولة وسلامة أركانها وديمومة استمرارها واستقرارها وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة داخليا وخارجيا وكذلك حماية السكّان وتلبية احتياجاتهم وتأمين مصالحهم مع مراعاة المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية.

وطبيعي ألّا يقتصر الأمن القومي بحكم مهامه الرئيسية على حماية الدولة وأركانها ومقوماتها ووقاية البلاد وسكّانها من المخاطر والتهديدات مهما كانت طبيعتها أو مصادرها، وإنّما يشمل بالضرورة كذلك حماية الأرشيف الذي يحفظ ذاكرة البلاد ويمثل ركنا هاما من هويّتها ورهانا استراتيجيا خطيرا على أقصى درجات الأهميّة بما يحتويه من ملفات ومعطيات ووثائق هامّة، بل مصيريّة في أحيان كثيرة قد ينجرّ عن ضياعها أو التلاعب بها خسارة لحقوق الدولة وحقوق مواطنيها.

ونذكر في هذا السياق الخلافات التاريخية الحادّة بين الجزائر وفرنسا حول الأرشيف الذي يخص تاريخ الجزائر في الفترة الاستعمارية والموجود في فرنسا والذي كان ولايزال موضوع مطالبات متواصلة من الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ الاستقلال إلى اليوم نظرا لأهميته الحاسمة في تاريخ البلاد وهويّتها، علما أنّ الطرفين يتفاوضان حول مصير هذا الأرشيف إلى اليوم. لهذه الأسباب، يرى مراقبون للشأن العام في البلاد ضرورة أن يلقى ملف الأرشيف الأهمية التي يستحقّ من أعلى سلطة في البلاد بعد الإجراءات الرئاسية التي تمّ اتخاذها في 25 جويلية 2021 وأن يتمّ وضع ملف الأرشيف الوطني ضمن أولويات ملفات الأمن القومي وفي صلب اهتمامات أعلى سلطة في البلاد حتّى لا تنفرد أطراف بعينها بوضع اليد على الأرشيف الوطني والتحكم في ذاكرة التونسيين وحتى يتم النأي بهذه المؤسسة الاستراتيجية عن التجاذبات السياسيّة التي أثّرت فيها منذ 2011 ووضعتها في مهبّ الصراعات الحزبيّة وجعلته موضوعا لجدل عقيم وسببا في الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى