مجتمع

بقلم القاضية أنيسة التريشلي: قراءة أولية في مشروع الدستور المقدّم من رئيس الجمهورية موضوع الإستفتاء المقرر ليوم 25 جويلية 2022

التوطئة: اتسمت التوطئة بالصبغة الإنشائية من حيث الشكل , أما من حيث الأصل فقد اعتبرت الدستور قائما على دولة القانون و مجتمع القانون في حين أن مضامين الدستور كانت بعيدة كل البعد عن ذلك.

تضمنت التوطئة أن الديمقراطية ستقوم على سياسة ديمقراطية إقتصادية و اجتماعية بتمكين المواطن من الحق في الإختيار الحر بينما كان المواطن أكثر الغائبين في الدستور.

التأكيد صلب التوطئة على الإنتماء للأمة العربية و الحرص على التمسك بالأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي يؤكد خروج الدستور عن مدنية الدولة مع ما سيتأكد في فصوله الأولى.

التمسك برفض دخول تونس في تحالفات في الخارج و رفض تدخل أحد في الشؤون الداخلية لتونس و إن كان في باب فرض سيادة الدولة إلا أن مبدأ تقرير الشعوب لمصيرها يتسم دائما بالنسبية بحكم ضرورة التعايش في المجتمع الدولي و تمكينه دوريا من الوضع الداخلي للحقوق و الحريات و هو البعد الذي غاب تماما في توطئة الدستور و مضامينه.

تمسك رئيس الجمهورية صلب التوطئة بإقامة توازن حقيقي بين الوظائف القضائية و التشريعية و التنفيذية و بفصلها عن بعضها البعض فيما كانت المضامين مختلفة تمام الإختلاف عن هذه المبادئ بل و تعكس خرقا فادحا للتفريق بين السلط و انخرام في الموازين بينها.

من حيث جندرة فصول الدستور :

تم نسخ عدد هام من فصول دستور 2014 مع المحافظة على الجندرة المضمنة بها على غرار الفصول 22 و 23 و 46 بالتنصيص على المواطن و المواطنة في حين غابت كل جندرة في باقي فصول الدستور المعدلة و الجديدة الأمر الذي يستحق مراجعة من حيث مكانة المرأة في الدستور و التي غابت تماما ما عدى ما تم نسخه حرفيا من فصول دستور 2014.

من حيث سيادة الدولة:

صلب الفصل 9 من الدستور تم حذف كلمة “كرامة” من شعار الجمهورية التونسية حيث تضمن في نسخة الفصل 4 من دستور 2014 أن شعار الجمهورية “حرية ,كرامة,عدالة ,نظام” ليصير في مشروع الدستور “حرية,نظام,عدالة” و نتساءل هنا عن المغزى من حذف قيمة إنسانية عظمى من شعار الجمهورية التونسية و هي “الكرامة” ؟

اختار مشروع الدستور حذف مضمون الفصل 3 من دستور 2014 و الذي تضمن حق الشعب في ممارسة السلطات عبر ممثليه المنتخبين أو عبر الإستفتاء و أن الشعب صاحب السيادة” و التراجع عن هذا المضمون هو تقهقر لمركز الشعب في الدستور و لتقريره لمصيره عبر آلية الإنتخاب بصفة أساسية.

تم تغيير مضمون الفصل 9 من دستور 2014 باعتماد الفصل 14 في المشروع و اعتبار أن “الدفاع عن حوزة الوطن واجب مقدس على كل مواطن” في حين نصت أحكام الفصل 9 على ” الدفاع عن وحدة الوطن “و استعمال عبارة حوزة يعكس المفهوم الجغرافي و الترابي للدولة في حين أن الوحدة تعتبر مفهوما أكثر شمولية و مختلفا عن مفهوم الحوزة و فيه تغيير للمفاهيم و الدلالات.

ما يلاحظ أيضا بغرابة هو غياب مضامين الفصول 17 و 18 و 19 من دستور 2014 و التي تتعلق باحتكار الدولة لإنشاء القوات المسلحة و قوات الأمن الداخلي كغياب ضبط مفاهيم و صلاحيات الجيش الوطني و الأمن الوطني و اعتبار هذا الأخير أمنا جمهوريا يعمل في كنف احترام الحريات و الحياد التام الأمر الذي يفضي لتخوف من غياب هذه المفاهيم التي كانت من أسس تركيز الدولة المدنية الحامية للحقوق و الحريات.

من حيث الحقوق و الحريات :

بعد توطئة الدستور التي أكدت أنه تم التمسك بالأبعاد الإنسانية للدين الإسلامي و بعد حذف الفصل 2 من دستور 2014 الذي نص على أن ” تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون ” جاء الفصل 5 جديد لينص على أن “تونس جزء من الأمة الإسلامية و على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس و العرض و المال و الدين و الحرية”

يستشف من مما تقدم أن مشروع الدستور الجديد سجل تراجعا صريحا عن مدنية الدولة و ذهب في اتجاه تركيز دولة تعمل على تحقيق مقاصد الدين الإسلامي بما يتضمنه الأمر من تركيز للحفاظ على النفس و ذلك بالزواج و التناسل و و دفع الضرر عنها و عدم الإلقاء بها للتهلكة مع كل ما يمكن الذهاب فيه للزواج بأربع حسب التشريع الإسلامي و منع العلاقات الجنسية غير المجرمة قانونا  كمنع المشروبات الكحولية و السجائر التي تهلك الجسد و تدخل بالضرورة في باب الحفاظ على النفس كمقصد من مقاصد الدين الإسلامي تعمل الدولة على تحقيقه بمختلف القوانين و المراسيم و التراتيب.

أما الحفاظ على الدين فالمقصد منه تثبيت الدين الإسلامي بالنفوس و اتباع أحكام الشرع و اجتناب كل ما نهى الدين عن اتيانه.

أما الحفاظ على المال فهو أيضا من مقاصد الدين الإسلامي و يتأسس على إباحة التجارة و تحريم كل ما نهى عنه الدين في هذا الباب كالقروض البنكية.

أما الفصل 26 جديد فقد نص على أن “حرية الفرد مضمونة” دون بيان أي حرية ضرورة أنه يجب تفصيل الحريات المضمونة بالدستور و بقيت عبارات الفصل 26 ضبابية و غير ذات معنى.

الفصل 28 جديد نص على أن “الدولة تحمي حرية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخل بالأمن العام” و يبقى مفهوم الأمن العام قيد تعريفه و البحث عن مفهومه بما يجعل تقييد القيام بالشعائر الدينية مناط تصرف الدولة و توسعها في هذا المفهوم أو تضييقه.

مشروع الدستور غاب فيه الفصل 6 من الدستور القديم الذي نص على أن”الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.

تلتزم الدولة بنشر قيم الإعتدال والتسامح وبحماية المقدسات و منع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف و بالتصدي لها”

ان التراجع عن تحييد المساجد و دور العبادة من التوظيف الحزبي يعد سابقة خطيرة في تنقية الحياة السياسية و الدفاع عن فكرة فصل الدين عن السياسة كما أن حذف التزام الدولة بنشر قيم الإعتدال و التسامح و منع دعوات التكفير و التحريض على الكراهية و العنف و التصدي لها يعد أيضا تراجعا عن مكاسب حقيقية في تحقيق السلم المجتمعي.

حافظ مشروع الدستور على عدد من فصول دستور 2014 بنفس الصياغة على غرار الفصول 22 و 23 جديد و هما تفصيل للفصل 21 من دستور 2014 ,و تم الحفاظ أيضا على الفصول 6 و 41 و 24 و 25 و 26 و 27 و 28 و 29 و 30 و 31 و 32 و 34 و 35 و 37 و 38 و 39 و 40 و 43 و 45 و 46 من مشروع الدستور و هي فصول منقولة حرفيا من دستور 2014.

في حين تم تعديل عدد هام من الفصول الأخرى في باب الحريات على غرار الفصل 41 الذي ينظم الحق النقابي بصفة عامة و حق الإضراب بصفة خاصة فأضاف لقائمة المنع من ممارسة حق الإضراب التي كانت تضم قوات الأمن الداخلي و الديوانة في الفصل 36 من دستور 2014 أضاف لهما القضاة بمنعهم من ممارسة حق الإضراب و في ذلك إعتداء على حق القضاة في ممارسة النشاط النقابي و الذود عن مطالبهم.

تضمن الفصل 55 من مشروع الدستور تعديلا كبيرا على مقتضيات الفصل 49 من دستور 2014 حيث تم تحديد ظوابط الحقوق و الحريات فكانت مقتضيات الفصل 44 من دستور 2014 تربط تلك الظوابط” بوجوبية أن تكون في إطار ضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية و مع احترام التناسب بين هذه الظوابط و موجباتها” و هي ظوابط ترتبط بالأساس بجوهر الدولة المدنية الديمقراطية و غياب هذا التنصيص في الفصل 55 من المشروع يعد تراجعا صارخا في منظومة الحقوق و الحريات.

اتسمت صياغة الفصل 35 من مشروع الدستور بالضبابية و هو نص يقرأ بكثير من الحذر علما أنه تم نقله حرفيا من الفصل 29 من دستور 2014 و الذي يشرع” لعدم إمكانية إيقاف شخص أو الإحتفاظ به إلا في حالة التلبس أو بقرار قضائي..” و كان أحرى تعديل هذه الصياغة باعتماد عبارات أكثر وضوحا و اقل التباسا كاعتماد هذه الصياغة ” لا يمكن إيقاف شخص أو الإحتفاظ به إلا في حالة التلبس و أن يكون ذلك بمقتضى قرار قضائي” و الحفاظ على الصياغة القديمة قد تسجل خرقا لضمانات ذي الشبهة و كان من الأجدر تعديلها.

حافظ مشروع الدستور في فصله 33 على نفس صياغة الفصل 27 من دستور 2014 بأن نص على أن “المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع في أطوار التتبع و المحاكمة” غير أن السؤال يطرح حول جدوى هذا النص و مضامينه و قد اختار رئيس الجمهورية إعفاء سبع و خمسين قاضيا دون التمتع بقرينة البراءة مع حرمانهم من جميع ضمانات الدفاع في خرق صريح و واضح لمعايير المحاكمة العادلة و بالتالي فإن أي نص دستوري يحتاج لتطبيق سليم و استيعاب لروح النصوص و فلسفتها.

من حيث السلطة التشريعية:

شهد باب السلطة التشريعية تحويرا كبيرا في مضامينه و آليات المجلس النيابي و تسميته سنأتي عليها تباعا.

تم اعتماد نص “إذا تعذر إجراء الانتخابات بسبب خطر داهم فإن مدة المجلس تمدد بقانون” و ذلك صلب الفقرة الثانية من الفصل 60 من مشروع الدستور و بصفة مستقلة في الفصل 64 منه و يمكن اعتباره خطأ ماديا واجب التدارك.

تم تغيير توصيف السلطة التشريعية بأنها “وظيفة” باعتماد بدائل “الوظيفة” في المشروع بدل “السلطة” و هو ما من شأنه أن يكشف خروج مشروع الدستور عن مبدأ السلط في الدولة و مبدأ التفريق بينها و مبدأ أن كل سلطة تراقب السلطة الأخرى في تجاف مع توطئة الدستور التي أكدت على تركيز توازن بين الوظائف في الدولة و الحال أن التوازن يخلقه توزيع السلط و مراقبتها لبعضها البعض لكي لا نسقط في انزلاقات التعسف بالقرار.

اعتمد باب السلطة التشريعية على تركيز مجلسين نيابيين بدل مجلس نواب الشعب في دستور 2014 حيث تم الحفاظ على مجلس نواب الشعب و إضافة مجلس نيابي ثان تمت تسميته بالمجلس الوطني للجهات و الأقاليم.

يعكس تركيز المجلس الوطني للجهات و الأقاليم فكرة البناء القاعدي الذي يظل فكرة هلامية في انتظار تحديد الأقاليم و الجهات و مع ما يمكن أن يفضي لفكرة تشتيت الدولة و انقسامها و تغذية الحساسيات الجهوية و الرجوع لنظام العروشية و المعارك الأهلية.

تم حذف القسم المنظم بالفصل 58 من دستور 2014 الذي يؤديه أعضاء المجالس النيابية من مشروع الدستور و لا يمكن الوقوف على مغزى الحذف طالما تم الإبقاء على آداء رئيس الجمهورية لليمين القانونية و بالتالي لا يمكن الذهاب في إمكانية التأسيس لفكرة حرية المعتقد و الضمير طالما تم الإبقاء على القسم في باب آخر.

تم كذلك حذف مضمون الفصل 61 من دستور 2014 و الذي ينظم التصويت الشخصي لأعضاء مجلس النواب من مشروع الدستور بما يسمح للتصويت بالوكالة في المجالس النيابية المدسترة حديثا و ما يمكن أن يفضي ذلك لانزلاقات في التصويت بالوكالة في اتجاه معين و في غياب للشفافية و الأمانة في آداء الوظيفة النيابية.

الفصل 58 من مشروع الدستور و في خصوص شروط الترشح لعضوية مجلس النواب أسقط شرط” ألا يكون المترشح مشمولا بصورة من صور الحرمان المقررة بالقانون” مما قد يفضي لقبول الترشح لعضوية مجلس النواب ممن تقررت في حقهم عقوبة المنع من الترشح.

الفصل 61 من مشروع الدستور قام بوضع ضوابط لممارسة العمل النيابي و هو عدم ممارسة أي نشاط آخر بمقابل أو بدونه و هو يسحب البساط بصفة صريحة من المحامين الذين كان حضورهم قويا في المجالس النيابية السابقة و كرجال قانون مختصين في صياغة القوانين و الوقوف على محاذير و فخاخ النصوص القانونية فإن تغييبهم بصفة مقنعة قد يضعف من المجلس النيابي و من جودة القوانين.

منع الفصل 62 من مشروع الدستور التحاق النائب بكتلة نيابية أخرى بعد انسحابه من كتلته التي كان ينتمي إليها خلال مدته النيابية بما يعبر عنه بمنع السياحة الحزبية و قد يكون في الأمر تجديدا و تحديدا لتغيير النائب لانتماءاته الحزبية و وفاء لأصوات ناخبيه إلا أنه كان بالإمكان السماح بتغيير وحيد خلال المدة النيابية احتراما للحق في النشاط السياسي و الإنتماء الحزبي و الحق في الإختلاف في الرؤى.

يسجل بكل حذر في مشروع الدستور غياب مضمون الفصل 55 من دستور 2014 الذي اعتمد نظام إنتخاب أعضاء مجلس النواب انتخابا عاما حرا مباشرا سريا نزيها و شفافا طبق القانون الإنتخابي بحيث تظل آليات انتخاب أعضاء مجلس النواب متسمة بالغموض و الضبابية و تسجل تراجعا بينا في آليات الإنتخاب.

أما بخصوص الحصانة الجزائية لأعضاء مجلس النواب فقد شهدت تعديلا كبيرا إذ كان المبدأ في الفصل 69 من دستور 2014 أن تتبع النائب ممكن ما لم يعتصم بحصانته كتابة إلا أن الفصل 65 من المشروع ذهب في عدم إمكانية تتبع النائب ما لم يرفع عنه مجلس النواب الحصانة و أنه حتى في صورة الجريمة المتلبس بها فإن كل إيقاف ينتهي إذا طلب المجلس ذلك” و في هذا المنحى تعد صارخ على القرار القضائي القاضي بإيقاف نائب بمجلس النواب حتى في صورة تلبسه بجريمة و اتخاذ قرار في رفع الحصانة عنه طالما أن الإيقاف لا يكون رهين الأبحاث و التحقيقات الجارية و إنما قيد طلب المجلس إنهاء ذلك الإيقاف لأي سبب قد يتراءى له و في ذلك مس بحقوق الغير و حق المجتمع و مقومات المحاكمة العادلة و المساواة أمام القانون.

وضع مشروع الدستور فصلا جديرا بالإهتمام و هو الفصل 66 الذي ينص على أنه “لا يتمتع النائب بالحصانة البرلمانية بالنسبة إلى جرائم القذف و الثلب و تبادل العنف المرتكبة داخل المجلس كما لا يتمتع بها أيضا في صورة تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس” و لئن يفهم منه أنه في إطار التوقي و التصدي لما شهدته المجالس النيابية السابقة من انزلاقات في النقاشات و الأعمال النيابية إلا أن الأسئلة التي تطرح تظل بلا أجوبة..

من يقوم بمعاينة هذه الجرائم و تكييفها و البت فيها ؟

في ظل تعداد هذه الجرائم بصفة حصرية هل تظل جرائم سب الجلالة و الإعتداء على الأخلاق الحميدة و العنف المعنوي و العنف المادي و غيرها موضوع تحصين للنائب عند ارتكابها ؟

أين يبتدأ الفعل المفضي لتعطيل السير العادي لعمل المجلس و أين ينتهي و من يضبطه ؟

أسئلة حارقة تظل بلا أجوبة.

الفصل 68 من مشروع الدستور حدد الأطراف المخول لها عرض مشاريع و مقترحات القوانين و يظهر من الصياغة أن لرئيس الجمهورية نصيب الأسد فيها و قد افتتح الفصل بـ “لرئيس الجمهوية..” الأمر الذي يفضي لانعكاس مفهوم دستور رئيس الجمهورية الحاضر في مضامينه بقوة حتى في باب “الوظيفة” التشريعية و صلاحيات المجلس فضلا عن افتكاك صلاحيات رئيس الحكومة المضمنة بالفصل 62 من دستور 2014 في تقديم مشاريع قوانين الموافقة على المعاهدات و مشاريع قانون المالية و ضمها للإختصاص الحصري لرئيس الجمهورية.

و على عكس ما تضمنه الفصل 57 في دستور 2014 بخصوص تحديد نهاية الدورة العادية لمجلس نواب الشعب فقد أقر الفصل 71 من مشروع الدستور شهر أكتوبر من بداية كل سنة لافتتاح الدورة العادية و تركها مفتوحة دون أمد في خلل زمني وجب تداركه.

يتضح أيضا استحواذ رئيس الجمهورية على الصلاحيات التي كانت ممنوحة لرئيس الحكومة في دعوة مجلس النواب للإنعقاد خلال العطلة و في دورة استثنائية و جعلها من اختصاص رئيس الجمهورية في تركيز لسلطة تنفيذية برأس واحد.

و لئن أقر الفصل 72 من مشروع الدستور انتخاب مجلس النواب للجان قارة من بين أعضائه تعمل بدون انقطاع حتى أثناء عطلة المجلس إلا أنه منح لرئيس الجمهورية خلال تلك العطلة صلاحية اتخاذ المراسيم وفق الفصل 73 من المشروع.

يلاحظ في صلاحيات رئيس الجمهورية في باب الوظيفة التشريعية سطو تام على كل الصلاحيات التي كانت ممنوحة سابقا لرئيس الحكومة على غرار ما تضمنته الفصول 78 و 80 من المشروع في تركيز لمؤسسة رئاسة الجمهورية الحاضرة بقوة في باب التشريع و إقصاء تام لدور رئيس الحكومة و إضعاف لدور أعضاء مجلس النواب.

ما يمكن الإشارة إليه أيضا في القسم المتعلق بالمجلس الوطني للجهات و الأقاليم أن الفصل 84 من المشروع لم يبين مآل رفض هذا المجلس للمشاريع المتعلقة بميزانية الدولة و مخططات التنمية الجهوية خاصة مع اشتراط التحصيل على الأغلبية المطلقة للمجلسين لتمرير قانون المالية.

من حيث السلطة التنفيذية :

عبر الفصل 87 من المشروع صراحة على النظام الرئاسي الذي سيكون عليه سير دواليب الدولة بما يكون معه رئيس الجمهورية رأس السلطة التنفيذية و أن تساعده في ذلك حكومة يرأسها رئيس حكومة بعد أن كان تسيير السلطة التنفيذية بصفة تشاركية بين رئيس الجمهورية و الحكومة في مضمون الفصل 71 من دستور 2014 و قد تركز النظام الرئاسوي الذي لا سلطان و لا رقابة عليه بعد حذف الفصل 88 من دستور 2014 و الذي تضمن أنه” يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه، وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضاءها. ولا يمكن للمحكمة الدستورية أن

تحكم في صورة الإدانة إلا بالعزل..” و بالتالي فإن مشروع الدستور أقصى كل فرضية لمراقبة آداء رئيس الجمهورية و في مدى احترامه للدستور.

ما يمكن الإشارة إليه أيضا هو محافظة الفصل 88 من المشروع على مضمون الفصل 72 من دستور 2014 و الذي يشترط في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية أن يكون دينه الإسلام في تعارض مطلق مع حرية المعتقد و الضمير من جهة و مبدأ المساواة في الحقوق و الواجبات لكل المواطنين فمن كان معتنقا لدين آخر يدفع الضرائب و ينضوي في كل الواجبات المحمولة على المواطن التونسي لكنه يحرم من حق الترشح لرئاسة الجمهورية و في ذلك خرق لكل المبادئ الكونية لحقوق الإنسان و للمبادئ الدستورية.

ما يمكن ملاحظته أيضا بكثير من الحذر أن الفصل 90 من المشروع قام بحذف عنصري الشفافية و النزاهة من معايير انتخاب رئيس الجمهورية خلافا لما تضمنه الفصل 75 من دستور 2014 كما حذف شرط الأغلبية المطلقة و نظام الدورتين و أقصى فرضية وفاة المترشح للرئاسة مما يفضي لانزلاقات خطيرة في النظام الإنتخابي و أسئلة حارقة تطرح حول سبب حذف معايير النزاهة و الشفافية ؟؟؟

ما يمكن ملاحظته أيضا أنه تم حذف واجب الإلتزام بالولاء لتونس من قسم رئيس الجمهورية في الفصل 92 من المشروع في تعديل للفصل 76 من دستور 2014 و يطرح التساؤل بعمق و بغرابة شديدة حول سبب حذف واجب الولاء لهذا الوطن …

الفصل 96 من المشروع أو الفصل 80 من دستور 2014 الشهير شهد بدوره تغييرات عميقة و خطيرة جدا و ذلك بإدخال تعديلات تؤدي بالضرورة لخطر يهدد الديمقراطية و استقرار الأمن بالبلاد فقد تم حذف واجب إعلام رئيس المحكمة الدستورية بوجود حالة الخطر الداهم التي تفضي لاتخاذ رئيس الجمهورية عددا من التدابير الإستثنائية في إقصاء تام لدور المحكمة الدستورية مما يجعل من رئيس الجمهورية في حالة جمع لكل السلط دون وجود أي جهة رقابية لما يمكن أن يقوم به و قد منح لنفسه سلطة تقدير زوال أسباب الخطر الداهم دون رقيب و لا حسيب كما تطرح بشدة فرضية خروج رئيس الجمهورية عن المدة القانونية النيابية و تربعه على عرش الرئاسة إلى أمد غير محدد.

الفصل 109 من مشروع الدستور و هو مواز لمضمون الفصل 84 من دستور 2014 أقر عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية فورا مهام رئاسة الدولة مؤقتا و يجدر التساؤل هنا عن الفرضية التي قد يحصل بها الشغور دون أن يتم تركيز المحكمة الدستورية بعد و كان من الأجدر وضع فرضيتين على الأقل لمنع أي انزلاقات قد تمس بأمن البلاد.

تجدر الإشارة إلى أن الفصل 110 من المشروع كان بصفة متطابقة مع الفصل 87 من دستور 2014 مؤسسا لعدم مساءلة رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار آدائه لمهامه و هو فصل تجدر مراجعته للتأسيس لثقافة المحاسبة و ألا أحد فوق القانون .

من حيث الحكومة:

اتسمت الفصول المنظمة للحكومة برقابة رئيس الجمهورية لأعمالها و إمكانية توجيه لائحة لوم لها من قبل مجلس النواب و المجلس الوطني للجهات و الأقاليم و قبول رئيس الجمهورية لاستقالة الحكومة في حين لا وجود لأي رقابة من الحكومة لأعمال رئيس الجمهورية .

ما يلاحظ أيضا تسجيل فراغ تشريعي في إمكانية شغور منصب رئيس الحكومة مثلما تناوله الفصل 100 من دستور 2014 مع دحر تام لمركز المحكمة الدستورية التي كانت تحل لفض النزاعات التي تطرأ بين رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة طبق الفصل 101 من دستور 2014 و ما يفهم من ذلك تقهقر تام لدور المحكمة الدستورية و تسلط كبير في دور رئيس الجمهورية و عدم وجود أي آليات رقابية لأعماله.

من حيث السلطة القضائية:

يجدر التذكير دائما أن القضاء سلطة مستقلة و أن توصيفها بالوظيف فيه استبطان لفكرة الإستحواذ عليها و وضع السلطة التنفيذية ليدها على القضاء.

الفصل 117 من المشروع تم فيه تعديل الفصل 102 من دستور 2014 بحذف أن القضاء يضمن إقامة العدل و علوية الدستور و حماية الحقوق و الحريات و في ذلك مرور مباشر لعدم مراقبة القضاء لدستورية القوانين و عدم إمكانية استبعادها من التطبيق فضلا عن أن مثل هذه المضامين المبدئية وجب ترسيخها و ليس استبعادها.

تسمية القضاة بالفصل 120 من المشروع أصبح بمقتضى ترشيح من مجلس القضاء الأعلى المعني و لم يعد برأي مطابق للمجلس مما يفتح الباب لتسييس القضاة و فتح المجال أمام رئيس الجمهورية لاختيار الموالين له لتركيزهم بالمناصب الهامة مما قد يفضي بالضرورة لتطويع القضاء لسلطة رئيس الجمهورية و التحصيل في النهاية على قضاة على مقاس رئيس الجمهورية.

ما تجدر ملاحظته أيضا هو حذف مضمون الفصل 105 من دستور 2014 و الذي كان يؤسس لمهنة المحاماة كشريك في إقامة العدل و تمتع المحامي بالضمانات القانونية لآداء مهامه و مثل هذا الحذف إنما يعد تقزيما لدور المحاماة في المشهد الوطني و في تحقيق التوازنات في المحاكمة العادلة و إقصاء لمهنة نبيلة تشارك فعلا في تحقيق العدل.

الفصل 121 من المشروع لم يكن بدوره وفيا لصياغة الفصل 107 من دستور 2014 بخصوص تمتع القاضي بالحصانة الجزائية حيث تم حذف التمتع بالضمانات التي يضبطها القانون و هنا انعكاس واضح لفكرة حرمان القاضي من الضمانات القانونية حال مساءلته تماما مثلما تم في حادثة إعفاء القضاة في جوان الفارط و حرمانهم من الضمانات القانونية المكفولة بالقانون.

الفصل 108 من دستور 2014 تضمن “لكل شخص الحق في محاكمة عادلة في أجل معقول و المتقاضون متساوون أمام القانون ..حق التقاضي و حق الدفاع مضمونان و ييسر القانون اللجوء إلى القضاء و يكفل لغير القادرين ماليا الإعانة العدلية…” على أهمية هذه المبادئ الكونية و التي تركز مقومات المحاكمة العادلة و تيسير الولوج للقضاء و مساعدة العاجزين ماليا على ذلك , تم حذف هذه المضامين في تراجع كبير عن مبادئ الدولة الديمقراطية و العادلة.

الفصل 109 من دستور 2014 و الذي تضمن تحجير التدخل في القضاء كان مصيره الحذف أيضا في تعد واضح على استقلالية السلطة القضائية و عدم جواز التدخل في القضاء و الأحكام و القرارات القضائية و فيه استبطان لوضع رئيس الجمهورية يده على القضاء.

الفصل 110 من دستور 2014 و الذي منع إحداث المحاكم الإستثنائية و التي من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة تم حذف مضمون هذا الفصل في تشريع مبطن لإمكانية إحداث مثل هذه المحاكم الإستثنائية و يمكن التذكير هنا بمحاكم أمن الدولة التي تم إحداثها لتصفية الخصوم السياسيين في السابق و كانت محاكمات مفتقرة لأبسط مقومات المحاكمة العادلة.

تم كذلك حذف باب المجلس الأعلى للقضاء مما يفضي لفرضية حاضرة بقوة و هو تركيز المجلس بمقتضى مرسوم يذهب في فرضية التعيين المباشر لأعضاءه من قبل رئيس الجمهورية مما يفضي بالضرورة لوضع اليد على القضاء و الإستحواذ على السلطة القضائية.

تم كذلك حذف أنواع الأقضية و تنظيمها مما قد يفضي أيضا لإعادة التنظيم الهيكلي للمحاكم وفق ما يراه رئيس الجمهورية في نية واضحة و صريحة للتحكم في القضاء.

من حيث المحكمة الدستورية:

و لئن كانت تركيبة أعضاء المحكمة الدستورية مشكلة من تسع قضاة من أقدم ثلاث قضاة في كل نوع من أنواع الأقضية إلا أنه كان من الأجدر أولا جعل التركيبة منفتحة على غير القضاة للتأسيس لفكر منفتح و شامل و لتكون المحكمة الدستورية شاملة لأعضاء يتسمون بالكفاءة في المجال و ليس فقط بالصفة فضلا عن أن إمكانية اختراق رئيس الجمهورية للمحكمة الدستورية جلي بموجب تدخله في التعيينات القضائية بمقتضى المراسيم الموضوعة و مشروع الدستور الحالي.

و يتجه التذكير أن المحكمة الدستورية هي الجهة الوحيدة التي يمكن لها مراقبة مشاريع القوانين التي يقدمها رئيس الجمهورية و مدى ملائمتها لمضامين الدستور و أن أي اختراق أو استحواذ على المحكمة الدستورية هو إفراغ للمحكمة من صلاحياتها و كينونتها.

ما يتجه الإشارة إليه أن الفصل 125 من المشروع لم يحدد المدة النيابية لأعضاء المحكمة الدستورية في فراع تشريعي في ابسط فرضياته و في نية لتأبيد المدة في فرضية مطروحة..

الفصل 127 من مشروع الدستور تضمن أيضا تعديلا خطيرا في اختصاص المحكمة الدستورية حيث كانت الصياغة في الفصل 120 من دستور 2014 كونه اختصاص حصري للمحكمة الدستورية في النظر في مراقبة دستورية القوانين لتصير الصياغة “تختص المحكمة الدستورية..” و يطرح التساؤل حول حذف حصرية الإختصاص و إمكانية افتكاك رئيس الجمهورية لهذه الصلاحية أيضا.

من حيث الهيئات الدستورية:

شهد مشروع الدستور إقصاء و حذفا لغالبية الهيئات الدستورية و هي هيئة الإتصال السمعي البصري و هيئة حقوق الإنسان و هيئة التنمية المستدامة و حقوق الأجيال القادمة و هيئة الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد مع الحفاظ فقط على الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات و في ذلك إقصاء لهيئات تعديلية هامة في المشهد الوطني اختار رئيس الجمهورية استبعادها.

من حيث الجماعات المحلية و الجهوية:

تم تعويض باب السلطة المحلية بالجماعات المحلية و الجهوية و بقي هذا الباب متروكا لتنظيم لاحق بما يمكن معه الذهاب في سلطة التعيين أو الإنتخاب و هو فراغ يسمح بالتعسف لاحقا بهذه السلطة المحلية و بتنظيمها و قد تكون لبنة أولى لتركيز البناء القاعدي.

من حيث الأحكام الإنتقالية:

الفصل 139 من مشروع الدستور يعد لوحده انزلاقا خطيرا بنتائج الإستفتاء حيث ضمن الفصل 139 أن الدستور يدخل حيز التطبيق من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الإستفتاء دون أن يتم تحديد إن كانت النتائج بالأغلبية المطلقة للأصوات الموافقة لمشروع الدستور مما يفضي لنتيجة حتمية أن نتيجة التصويت لا تأثير لها في اعتماد هذا المشروع بمقتضى مقتضياته الواضحة.

يطرح التساؤل بالضرورة حول جدوى الإستفتاء و قد انتهج رئيس الجمهورية طريق اعتماده مهما كانت نتائج التصويت عليه.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى