-

بقلم عبد العزيز القاطري: آدم بوليـــفة والــدّولة الفـــاسدة القـــاتلة

انقضّــت وسائل الإعلام بشراهــة على حــادثة مقتــل الشّــاب آدم بوليــفة مستغلّــة حـــالة الغضــب لدى أغلبـــيّة المواطنيـــن للّهــث وراء الإثــارة والبوز ومــا يجلبــانه من إشهــار، وتتــالت عبــارات التّــرحم على روح آدم الذي ذهب للإحتفــال بعيد ميــلاده في ملهـــى بالعــاصمة صحبة والــده وأصــدقائه فرجــع إلى المنزل جثــة هــامدة، وتعــالت الأصـــوات المطـــالبة بتسلــيط أقسى العقوبــات على أعــوان الملـــهى المتّهميـــن بقتلــه وبغلـــق الملهــى، وبعــد أيام ستُنســى هذه الحــادثة ويعــود الجمـــيع إلــى مشــاغل الحيــاة اليـــوميّة، وتستمــرّ الأمــور كــأنّ شيئــا لم يكــن، دون طــرح السّــؤال الحقيقـــي الّــذي يجــب طــرحه: لمــاذا يفقــد المــواطن التـــونسي حيــاته فــي المحـــلّات المعــدّة للإحتفــال بالحيــاة؟ لمــاذا ينــزل بــه الحــزن في المكـــان الّــذي ينشـــد فــيه الفــرح؟

لقــد عرفــتُ العـــاصمة منــذ أواســط سبعينـــات القــرن المـــاضي، وكنتُ محظــوظا للغــاية بأن زاولـــت دراستـــي بالمعهـــد الأعلــى للتصــرّف بفــروعه الثــلاثة ســواء في ســاحة علــي الــزواوي أو في شــارع فرنســا أو في نهــج ابن خلـــدون فــي قلب العــاصمة، فــي خضـــمّ ما كــان يــدور مــن أحــداث سيــاسيّة آلــت إلــى احــداث الخميـــس الأســود في 1978، وفــي حــالة الغلـــيان الثقـــافية التـــي شهدتهــا المديــنة آنــذاك من عــروض مســرحية أو مــوسيقية ســواء في مســارحها أو داخـــل المبيتــات الجــامعية، ومــن أفــلام داخــل عشــرات القــاعات، أو من معارض الرسّـــامين في قــاعات يحــي والأخبــار وغيــرها.

فــي ذلــك الزمــان الّــذي يبــدو اليـــوم بعيـــدا، كــانت المديــنة مزروعــة بالحــانات والمطـــاعم والمــلاهي، ســواء في شــارع بورقيــبة أو في الشــوارع والـــدوائر القــريبة، مثــل شارع بــاريــس، وشــارع قــرطاج، وشــارع مرسيــليا، ودائــرة البــاساج وشـــارع الحرية وشــارع مدريــد، وشــارع لنـــدرة، وحتّـــى فــي المطعــم الجامعــي بالبالمـــاريوم وفـــي مقهـــى قبّـــة الدّيــوانة بشـــارع الجمهـــوريّة، وقبــل ذلــك كــانت حتّـــى دكــاكين بيــع المــوادّ الغــذائيّة تبيــع المشــروبات الكحـــوليّة بكــلّ بســاطة ودون تعقيــدات. حتّــى في بلدتــي الصّغـــيرة السّـــرس، كــانت هنــاك حانتــان بالإضــافة للمسبـــح البلـــدي أيـــن يذهــب عليـــة القـــوم وعـــامّتهم لتنـــاول مــا لــذّ وطــاب من المــأكولات والمشــروبــات متــى أرادوا ذلــك دون حسيــب ولا رقيــب.

كــانت الحــانات تستقبــل الحرفــاء بكــلّ احتــرام وتبجيــل ســواء فــي فضــائها الــدّاخلي أو الخــارجي عــلى الرّصيــف، فــي كنف الإحتــرام ودون أن يكــون ذلك مبعثــا للحرج أو للشّغــب والتّشــويــش، وكــان أصحــاب تلــك المحلّات يُشغّلـــون مئــات الأجــراء بيــن نادل وطبــاخ ورئيــس مطبــخ ومكلّــف بالخــزينة، ويتكفّلــون بدفع تغطيتهــم الصحّيـــة والإجتمــاعيّة، ويــدفعــون آداءاتهــم، وحتّــى يضطلعـــون بـدور المخبــر لفــائدة مصـــالح الأمن.

لكــن منــذ تــولّــي محمــد المزالــي الوزارة الأولــى، انتهــج هذا الأخيــر تمشّــيا محــافظا زيــادة عــن اللّــزوم بتشجيــع من ممــالك وإمــارات الخليــج. وقـد تجلّــت أهــم مظــاهر ذلــك التّمشــي فــي الغــلق التــدريــجي لتلــك المحــلّات وسحب رخــص استغــلالــها لأسباب بعضــها وجيــه وأغلبــها واهي: إنشــاء الميــترو، بنــاء جــامع الفــتح، وفــاة المنتفعــين بالرّخــص، حدوث بعض المشــاجرات…، كمــا صاحب ذلــك غلــق تدريــجي وهدم لعديــد قاعــات السينــما العــريقة والــتي يعـدُّ أغلبهــا معــالم تاريخيــة شــاهدة علــى نهضة ثقــافية حقيــقية، كقــاعات البالمــاريــوم والشــانزيليــزي وستــوديــو 38…، وتــمّ غلــق قاعــات العـــرض للرّســـامين، وتــمّ تفليـــس الـــدّار التّــونسية للنّشـــر والتّـــوزيع الكــائن مقــرّها بشــارع قرطــاج وتبـديـــد تــراث كــامل من الكتــب والمنشـــورات والأسطوانات وحقــوق النّشـــر والتوزيــع، وحــلَّ محلّــها دكـــاكين الملابـــس والأحــذية ومحــلّات بيــع السندويــتشات وغيــرها من معــاقل الإستــهلاك المــادي.

والأغــــرب فــي الأمـــر أن ذلــك الوزيـــر الأول كــان يحســب على الثقــافة والأدب بصفته أستاذا في الأدب تولّـــى ســابقا وزارتـــي الثقــافة والتعليـــم وهو بــاعث مجلّــة “الفكــر” الأدبيّــة الشّهيــرة. ولكــن إذا عُلِــم السّــبب بَطُــل العجــب، حيــث نعلــم اليــوم ما كــان يربــطه من علاقــات مع حركــة الإتجــاه الإسلامـــي الفــرع المحلّـــي لتنظيــم الإخوان المتطــرّف عــدوّ التّنــوير والثّقـــافة.

منــذ ذلــك الــوقت، تم غـــلق 90% من الحـــانات والمطــاعم السّيــاحية وغيــر السّيــاحية فــي قلــب العـــاصمة، بينمـــا تضـــاعف عــدد سكّــان تــــونس الكبـــرى أكــثر من أربـــع مـــرّات حيــث مــرّ من 870.000 سنة 1975 إلـــى 2.250.000 سنــة 2014، وتضـــاعف في نفــس الفتـــرة عدد السّــواح حـــوالي عشـــر مــرّات في البـــلاد وتضـــاعف استهـــلاك وتــوريــد المشـــروبات الكحـــولية ووحــدات إنتـــاجها عــدّة مــرّات ، فأيـــن بربّــكم يتــم استهـــلاكها؟

يتـــمّ استهـــلاكها في الغـــرف المظلمـــة، وفـــي الشــقق المفـــروشة، وفــي السّيــــارات، وعـــلى حـــافّة الطّـــرقات، وعــلى السّطـــوح، وتحــت مــدارج العمـــارات، وعـــلى عتبـــات المنـــازل أمـــام أنظـــار المــارّة والجيــران ومصــالح الأمن، حتّــى أنّــه بمــرور الــزّمن، فقــد التــونسي آداب الجــلوس فــي المطــاعم وقـــواعد الحيـــاة الإجتمـــاعية، وأصبـــح يشـــرب ليسكــر، محــدثا بذلــك منـــاوشات ومشـــاجرات تنتـــهي عمــوما بجــرائم بشعـــة.

وعنـــدما تغلـــق محلّات بيعها في اللّـــيل وأيّــام الجمعـــة والأعيــاد الدّيــنية، أو عنـــد فقــدانها في القـــرى والمــدن التــي لا تكـــون مرخّــصة فيــها، يلجـــأ مستهلكـــوها إلــى اقتنائـــها لــدى محــلّات البيـــع التي يقــال عنهــا خلســة وهـــي تمــارس نشــاطــها فــي العـــلن وعلى مرأى من مصـــالح الأمــن، مــع مــا يصحب ذلك مــن بيـــع للــذّمم ومــن ابتـــزاز، بينمــا يقتنيــها المحظــوظون من أصحـــاب الجــاه والنّفــوذ من المطـــارات ومن مستــودعــات البيــع الخـــاضعة للرّقــابة الدّيـــوانية بتواطـــؤ مصـــالح الرّقـــابة تلــك علــى حســاب الخزيـــنة العمــوميّة.

أمّـــا مــا تبقّـــى من المحــلّات المــرخّص لها فــقد تحـــوّل البـــعض منهـــا إلــى مــلاهي يرتـــادها بعــض الميســـورين وحتّـــى أبنــاء الطّبقــة الوسطـــى أمثــال آدم بوليـــفة ووالـــده، ونظـــرا لنــدرة المحــلّات ولكثـــرة الحـــرفاء الــذين يصــل عــدهم للمئــات للمــحلّ الــواحد، فــإنّ أصحــابها يتولّــون إجـــراء تـــوسعــات بصــفة دوريّـــة عليـــها حتّــى تتّــسع للمزيــد ثمّ المزيــد من الـــوافدين، فــي مخــالفة واضـــحة لشــروط إسنــاد رخـــصة الإستـــغلال ولمقتضـــيات السّــلامة، وبتـــواطؤ مــن المسئـــولين علـــى جميـــع الأصعــدة دون استثنـــاء.

وإذا تجـــرّأ مـــواطن وطلــب إسنــاده رخـــصة فــي “المجـــال الحيــوي” لهــؤلاء فإنّــهم يسلّطـــون عليــه معــارفهم لـــرفض مطلبــه لنفــس الأسبــاب المتعـــارف عليــها: القــرب من أحــد الجـــوامع أو من مـــؤسسة تـــربويّـــة أو من منطقــة سكنيّة وتشكّـــي السّكـــان، والحـــال أن بعـــض المنتصبيــن تلتصــق ملاهيــهم بالمســـاكن التـــي يعـــاني أصحـــابها من ويــلات المـــرتادين بالآلاف وسيّــاراتهم التـــي يركنـــونها كيفمـــا تسنّـــى ويغلقـــون بــها جميــع المنافــذ، علاوة علـــى مضخّمـــات الصّــوت التــي تبقـــى تشتغــل إلــى ســاعــات متــأخّرة من اللّيــل وإلـــى استهــلاك المخــدّرات وإلــى إذلال المــرتاديــن وابتــزازهم مــن أجــل تمكيــنهم مــن الدّخــول ثمّ معــاملتهم كمــا لو أنّهـــم يطعمـــونهم بالمجـــان، كالأيتـــام في مــآدب اللّئــام.

لذلــك لا غــرابة إذن فــي أن يحســب أصحــاب تلك المحــلّات ومستخدمــوهم أنفــسهم فــوق القانــون، وأن يتـــولّوا شئــون الأمــن داخلهــا وإقـــامة العــدالة علــى النّحــو الــذي يرونــه، وأن يتصـــرّفوا فــي رقــاب الحـــرفاء كأنّـــهم عبيــد، لهــم عليــهم حــقّ الحيــاة والمـــوت، فــي غيــاب الــدّولة.

وأذكـــر هنــا العشـــرات من رجـــال الأعمـــال التّــونسيّيــن من مقيميــن وغيــر مقيميــن الّــذين أفنـــوا عمــرهم وجميــع مــدّخراتــــهم للحـــصول علـــى رخـــصة بيـــع المـــشروبات الكحـــولية لمطـــاعمهم دون نتيـــجة وتعـــرّضوا للإبتـــزاز ثــمّ  الإفـــلاس، كمـــا أذكـــر حـــالة تلـــك العـــائلة التـــي دفعــت مئــات آلاف الدّنـــانير لذلــك الإعــلامي الوغــد من أجــل الحصــول علــى رخصة ومــا انجـــرّ عنهــا من فضيـــحة دون التّحقيـــق الجـــذّي فــي هويّــة المسئــولين الّذيـــن كــان يعــوّل علــيهم للحصــول علــى الرّخصــة.

هــذا حــال الــدّولــة عنــدما يستبــدّ بهـــا الفــاسدون، الجاهــلون بنــواميسها، خَــدَمة مشــروع الظّــلام العــدمـــيّ، ولــن تتعــدّل الوضعيّـــة فــي غيـــاب مــراجعة المنظـــومة الفـــاسدة للتّـــراخيص وطــرق إسنـــادها الحــاليّة فــي كنف الضّبـــابية والإعتبـــاطيّة.

بقلم عبد العزيز القاطري

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى