مجتمع

بقلم عبد العزيز القاطري: الديوانة، تكريس الفساد وتوظيف الإدارة

عند أيّ تغييــر على مستـوى إدارة شـؤون الدّولــة، يســارع الحكّــام الجدد إلــى إجــراء تحــويرات علــى مستوى المسؤوليــات العليــا في الدّولة والإدارة، وذلك بإعفــاء من تمّت تسميتهم من طــرف ســابقيــهم في الحكم، أو إحــالتهم علــى التّقــاعد الوجــوبي دون أي شكل من أشكــال المحــاسبة للبعض، ودون وجــود أي موجب أو مبـرّر للبعض الآخر، ودون احتــرام الإجــراءات القــانونية للجميــع.

وفــي كل مـرّة تتمّ تنحية المــوالين للحكّــام السّــابقين وتعييــن المواليــن للجدد دون اعتبــار لأيّة عـوامل موضــوعية مثل الكفــاءة أو الخبــرة أو ملاءمة تكويـن المسـؤول الجديــد ومؤهّلاته للخطّـة، ودون أن تضبط له أيّة أهداف ولا أيّة خطّة عمــل لتحقيــقها، وبالتّــالي أيّة معــاييــر لتقييــم عمله علــى رأس الإدارة أو المــؤسّسة.

إلّا أنّ بعضهم ينجح في تخطّـي هذه القــاعدة وتجنّـب الإقــالة بمجــرّد تغييــر الحكــومات، وليس للحظّ أي دخـل فـي ذلك، بل السّـر فـي ذلك يعــود لقدرتهم عـلى التّلــون والتّلاؤم مع الأوضــاع، ولتمكّنهم من إرشــاء دوائــر النفــوذ السيــاسي عبرالإستجــابة للتّدخلات والتّوصيــات، ودوائــر النفــوذ المــالي عبر تسهيــل المعــاملات على حســاب التراتيــب الجاري بها العمل وعلى حســاب المتعــامليــن الآخريــن.

وتمثّل إدارة الدّيــوانة مثــالا حيّـا لهذا الــواقع، ففـي حيــن لم تتجــاوز فتـرة مكــوث أغلبية المديــريـن العــامّيــن علــى رأسها بضعة أشهر، وأحيــانا بضعة أســابيع، بل وبضعة أيّــام، فإنّ اثنــان منهمــا نجحــا في البقاء لمدة تنــاهز الأربـع سنــوات لكل منهما، “أكــلوا” خلالهــا أكثــر من رئيــس حكــومة، وأكثــر من وزيــر مــالية، وعــاصروا أكثـر من رئيــس جمهــورية، باعتمــاد وســائل الإرشــاء المشــار إليها، مستغليــن النفــوذ الخيــالي الذي تمنحه لهمــا الخطّة، ومعوّليــن في ذلك علــى شبكة علاقــات سعوا لتكوينها وتدعيــمها داخل رئاسة الجمهــورية ورئــاسة الحكــومة ومجلس النواب والأحــزاب الحــاكمة بفضل الخدمـات والتسهيلات، وعلى مجمــوعة مضيّقة من الضبّــاط المــوالين الذيـن بــاعوا ضمــائرهم مقــابل تعييــنات على المقــاس يستثمرونهـا بدورهم للإثــراء، ومقابل امتيــازات مثل السيــارات الإدارية وبونوات المحــروقات والمهام بالخـارج.

لكن الأخطــر بكثيــر هو أن يتم توظيــف مقدّرات الدّولة من محجوزات كالسيّــارات وأجهزة التلفــاز والمكيفات وغيــرها من البضــائع التـي يشقــى أعـوان الدّيــوانة من أجل تقفّــي أثـرها وحجـزها، والّتــي يفتــرض أن يتمّ بيعهــا وتحــويل محصــول البيع لفــائدة الخــزينة تخفيــفا لعجـز الميــزانية، يتم توظيــفها فـي شكل إحــالات لفــائدة جميــع الجهــات النّــافذة في الدّولة من وزارات وولايات ومحـاكم وغيرها من السّلط، رشــاوى مقنّعة ضمــانا لصمتهــا عن بقية التّجــاوزات ولديـمومة الخطّة.

بل وصــل الأمــر إلـى اختــراق هيئة مكــافحة الفســاد عن طريــق هذه الإحــالات، وقد كــافأت تلك الهيـئة إدارة الدّيــوانة بإسنــادها جائزة أفضل مؤسسة عمومية للحوكمة ومكافحة الفساد وذلك خلال حفل نظمته بمدينة الثقافة بتونس حضره وزير المالية ووزير التربية ووزير الشؤون الثقافية وبالطّبع المديـر العام، في إطــار “ما جـزاء الإحســان إلّا الإحســان”، والحــال أنهـا تحتلّ مرتبة لا تحسد عليـها ضمن الإدارات الأكــثر فســادا حسب جميع الدّراسات.

بالمقـابل، يتم التّنكيــل بكلّ من تسوّل له نفسه الامتنــاع عن الإنخــراط في هذا التّمشــي وفي الممــارسات وترهيـبهم عن طـريق سحب الخطط والإمتيــازات، ثم النّقل التعسفية، وصــولا للإجــراءات التّأديــبية المبــاشرة وحتّــى العـزل والإحــالة علـى التّقــاعد الوجــوبي بشتّــى الطّـرق التعسفية.

وقد ســاعدتهم فـي ذلك النصــوص التشريعية والتّرتيبية المنظمة لسيــر العمل في هذه الإدارة المفصلية في مجــال الإقتصــاد والجبــاية، وخــاصّة الأمــر عدد 1845 لسنة 1994 المؤرخ في 6 سبتمبر 1994 المتعلق بتنظيم الإدارة العامة للديوانة، والذي يسند كــامل السلطة المطلقة لمديــرها العــام في التصــرف فـي الرقاب والأمــوال والسيــارات والتجهيـزات دون حسيب ولا رقيـب. لذلك يتظــاهر جميــع المديــرين العــامين برغبتهم في إعــادة هيكلة الإدارة وفي وضع برنــامج لتعصيــرها حال تعييــنهم، ولكن سـرعان ما يتنكّــرون لوعــودهم بمجـرّد مـرور بعض أســابيع واكتشــافهم لما قد يخســرونه من نفــوذ بسبب أيّ تغييــر، فيقبرون المخطّطــات الجــاهزة، ويشرعــون فـي مخطّطــات جديــدة يشغـلون بها الرّأي العــام، ثم يغــادرون دون إنجــازهــا، وهكذا دواليــك.

وأورد في هذا الصّدد مشــاريع أوامر أشرفت شخصيــا علـى إعدادهــا صحبة فريـق من خيـرة ضبّــاطنا بإذن من الحبيب الصيـد رئيـس الحكــومة في منتصف سبتمبــر 2015، وكذلك بـرنــامج تعصيــر الدّيــوانة 2016-2020، وقد تمّ الإنتهــاء من الإعداد وإحــالة المشــروع إلى الجهــات المختصّة من طرفي في 9 جــانفي 2016، وتمّ صرف النــظر عنه لمــا يمثّله من تهديــد لمصــالح دوائـر التهريـب والغش من المتعــامليــن ولمربعــات الفســاد داخل الإدارة بفضل تكـريس التوزيـع العصــري للمهـام واللامركزية والشفــافية ولامادّية الإجــراءات، وهي كلهــا مفــاهيم تتعــارض مع منظــومة الفســاد المكـرَّسة داخل الإدارة وفي محيــطها التي تحتاج للغمـوض والضبـابية كي تستمر وتزدهر.

وحــال استلام المديــر العام الحــالي لمهــامه، وبدل استعــادة ذلك المشــروع والتعجيــل بتحييــنه ووضعه حيّــز التّطبيــق نظرا لخطــورة الوضع الإقتصــادي، فقد تم تجــاهله والشّــروع في إعداد مشــروع جديــد تمت تسميته المخطط الإستراتيجي لتعصير الديوانة التونسية 2020-2024، مخطّط لا زال يـراوح مكــانه إلى حدّ كتــابة هــاته الأسطــر.

لذلك، أطــالب السيد رئيــس الجمهــورية والسيدة رئيــسة الحكــومة والسيدة وزيــرة المــالية بتكويــن لجنة فنية متكــونة من خبــراء في مجــال الدّيــوانة والرّقــابة المــالية والإدارية يعهد لهــا بصفة استعجــالية بـ:

1- تحييــن مشروع إعــادة الهيكــلة المنجــز في جــانفي 2016 ووضعه حيّــز التطبيق في أجل لا يتجــاوز الثلاثة أشهــر.

2- فتح تحقيــق حــول طرق التصرف في المحجوزات وجميــع الإحــالات للسيــارات والبضــائع لفــائدة جميــع المستفيديــن والتّأكد من وجودهــا والعمل على استرجــاعها وبيعها وتأميــن محصــول البيع لدى الخزينة.

3- فتح تحقيــق حول إحــالة عشـرات الضّبــاط على التقــاعد الوجــوبي دون تقديـم أي تعليــل، ودون فتح تحقيــقات حول ما إذا كــانوا فعلا متورطيــن في ملفّــات فساد، مع ما سببه ذلك من إثقال لكـاهل صندوق التقــاعد، وإحالة ملفات من ثبت فسادهم على العدالة وإرجـاع الأبرياء إلى عملهم، وحــول إيـقاف آخرين عن العمل لمدّة أشهر بطريــقة تعسفية ثم إرجــاعهم للعمل وصرف جميع مستحقــاتهم ومــا سببه ذلك من خســارة للخـزينة، وهي حـالات سـوء تصـرف متأكدة.

4- فتح تحقيــق حـول النقل في مراكز العمـل الحسّــاسة مثل المطــارات والمـوانئ ومخـازن التسريح والمؤسسـات الخـاضعة للرقــابة الديــوانية، وحـول بعض التسميــات بالولاءات وبالتّوصيات في الخطط الوظيفية مثل المراقبين العانيــن والمديرين ورؤساء المكاتب.

5- فتح تحقيــق حول أكبر الصفقـات المنجزة ومدى احترامها للتراتيب الجــاري بها العمل، وخاصة الصفقات المتعلقة بالخــافرات وبالسيارات، وقد توليت التحقيق في إحداها وإحــالتها على العدالة في صائفة 2016 إبان إشــرافي على التفقدية العـامة دون نتيجة تذكر إلى اليوم، وحول أسبــاب عدم إشغــال المقـر الجديد للإدارة في المركز العمـراني الشمــالي من طرف مختلف المديرين، مقر استغرقت عمليات دراسته وإنجــازه عقدين من الزّمن، مع تـواصل إشغـال المقرّات الحالية على وجه الكراء من نفس المـالك.

6- وعموما في جميــع أوجه التّصرف في الموارد البشرية والمـالية وفي مجـالات الإعلامية والتقنيات الديـوانية البحتة ومقـاومة الغش والتهريب والنزاعات والتتبعات في ظل تأكد تواطؤ الإدارة في خسارة قضايا بمليـارات الدّيـنارات جرّاء التهــاون غير البريء في احترام آجال التتبع والإستئناف والتعقيـب.

وإنّي إذ ألجـأ لوسائل الإعلام للتعبير عن موقفي وعدم اعتمـاد القنوات الرسمية تفـاديا لشبكة العلاقات المشار إليها، فقد سبق لي أن توجهت في السـابق لرئيــس الحكومة بمطلب مقابلة مضمّن بمكتب الضبط بالقصبة بقي دون ردّ وتسبّب لي في سعي البعض للتنكيــل بي ونصب المكائد، مُعبّـرا على استعدادي للمشــاركة في اللجنة المطــالب بها واقتراح بعض الأعضــاء من ضمن إطــارات مبــاشرة أو متقــاعدة من ضمن الضباط أو اختصـاصيي المراقبة الإدارية والمــالية من قدمـاء الـCGF، أو الخبراء الخواص لضمــان حيادها.

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى