مجتمع

بقلم عبد العزيز القاطري: الدّيــوانة وصمت القصـور

بعد خمسة أيـام من إحـالة 21 ضـابطا من سلك الدّيـوانة علـى “التّقــاعد الوجــوبي” بطريـقة أقلّ مـا يقال عنهـا أنهـا لم تحتـرم الشّـروط القـانونية والشّكلية لاتّخـاذ مثل هذه القـرارات ولا الإجـراءات المعمـول بها في تبليـغها إلـى أصحـابها، وبعد أن أدلـى من يعلم ومن لا يعلم بدلوه في الموضوع بمـا فيهم المعنيّـون أنفسهم على وسـائل الإعلام وشبكـات التّـواصل الإجتمـاعي، تحصّنت الحكـومة ووزارة المـالية ووزارة الوظيـفة العمـوميّة والحوكمـة ومكـافحة الفسـاد والإدارة العـامّة للدّيــوانة بالصّمت المطبق رغم سعي وسـائل الإعلام للحصول على أيّ توضيـح أو تصريـح، صمت بليـغ يمكن أن نستشفَّ منه حــالة الحرج والإرتبــاك التي وُضِعت تلك المؤسّسـات فيـها جرّاء تلك القرارات الإرتجــالية.

وقد كنتُ أتيتُ فـي مقـال سـابق علـى مختلف الحجج الّتـي تثبت عدم قــانونية تلك القرارات، نضيـف لها ضـرورة أن تتمّ الإحــالة  على التّقـاعد الوجـوبي بأمْـر من رئيـس الحكـومة وليس بقـرار من وزيـر المالية، وبنـاء علـى تقريــر من طـرف المُشغِّل والملاحظـات الكتـابية للعون المعنـي، مع احتـرام الآجـال القـانونية. كما استنكرتُ الطّريـقة المهيـنة الّتـي تم بهـا إعلام المعنيّيـن بالأمر عن طريـق الهـاتف، ونشـر قـرارات الإحـالة علـى الشّبكة قبل تبليـغها لأصحـابها، مـا تسبّب فـي حملة تشويـه واسعة لهم وللسّلك بأكمله وفـي وفاة والدة أحدهم، والحـال أنّه كـان يتوجّب توجيـهها للإدارة وتكليـف الرّؤسـاء المبـاشرين بتبليـغها لهم مبـاشرة لكي يستلمُـوها ويُمضُـوا على ذلك مع توخّـي الكتمـان حفظـا لكرامة الجميـع حتّى يُعلِمـوا عائلاتهم بأنفسهم.

لكن ما يبعث علـى مزيـد الحيرة بخصـوص تدنّـي الوعـي بالمـرفق العــام لدى حكـومة الهُواة هذه، فهو عدم الإنتبــاه إلـى أنّ بعض المُحـالين علـى التّقـاعد يشغلـون خطط قيـادية في هياكل على علاقة مبـاشرة بحسن سير العمل داخل الإدارة أو مع المتعـامليـن، وإيـقافهم عن العمــل بهذه الطّريقة الفجئية دون تعويض ودون إصدار قرارات تفويـض الإمضاء، تسبب في بقاء تلك الهيـاكل دون رؤساء وتعطيـل المصالح طيلة خمسة أيّـام.

أمّـا ما سيزيـد الطّيـن بلّة، فهو أنّ صندوق التّقــاعد قد لا يقبل بصرف جرايات تقـاعد للمعنيّيـن بنــاء علـى إحـالتهم على التّقـاعد الوجـوبي بمـوجب قرارات وزارية وليس بمـوجب أوامر كمـا يقتضيـه الفصل 6 من القـانون عدد 12 لسنة 1985، وإن قبل فإنّه سيتحمّل عبئـا إضـافيّا يُعمّق من عجزه المــالي لعشرات السنيـن بالنّظر لمعدّل عمر المجمـوعة ولأمـل الحيـاة في تـونس، بل وأن أحدهم غـادر الإدارة في وضع إلحـاق بالخـارج، أي أنّه لا يتلقّـى مرتّبـا من الدّولة من أصله حـاليا، وقد يحصـل بهذا القـرار على حـوالي 000 30 دينـار سنويّـا هكذا إلـى أن يبلغ الثّـانية والستّيـن.

وهذا الصّمت مفهـوم، فمـا عسـاهم أن يفعـلوا بعد كلّ هذه الإرتجـالات الّتـي لا يمكن تفسيـرها إلّا علـى علاقة بتهــاون كلّ من إليــاس الفخفـاخ ومحمّد عبّـو في إدارة فضـائح الـQ5 وإفشـاء أسرار كراس شـروط الكمّـامات وإسنـاد صفقة الكمّـامات بالهـاتف، وفي التّعـامل الجدّي مع كبرى ملفّــات الفسـاد الّتـي تنخـر الدّولة والإقتصـاد، ملفّـات لم يجرؤ أحد علـى فتحهـا نظرا لتمكّن أصحـابها من مفـاصل الدّولة، مـا عدا مـا تمّ في إطـار تصفية حسـابات رئيـس الحكـومة السّـابق مع خصـومه، أو مـا يدخل في الممـارسات الإبتزازية للفـاسديـن.

غيـر أنّـي لو كُنتُ مكـان رئيـس الحكـومة، وبالنّظر لسطـو وزيـر المـالية علـى صلاحيّـاتي، فلن أُقيــله لأنه تصرّف عن حسن نية أو وقع التّغريـر به من طرف زميـله ولم يجد النّصـح من جيش المستشـارين والملحقيـن والمديـرين المُحيطيـن به، ولكنّـي كنتُ لِأُوجِّهَ له رسـالة لوم شديـدة اللّهجة، أسـأله فيها عن الأسبـاب الّتـي دعته لتجـاوز صلاحيـاته، وأدعـوه لسحب قراراته غيـر القـانونية وإبطـال مفعـولها، وإعـادة إدمـاج المعنيّيـن إلـى السلك (ليس بالضّرورة فـي خططهم)، لتعـود الوضعيّة الإدارية على الأقلّ إلـى مـا كـانت عليه قبل هذه الشّـوشرة.

إثـر ذلك أأذن بفتـح تحقيـق إداريّ جدّي للوقـوف علـى مُلابسـات هذه الإجـراءات، من حيث عدم مطـابقتها للقـانون،  وخــاصّة من حيث المعـاييـر الّتـي تمّ اعتمـادها في اختيـار هؤلاء بالذّات، حيث يبدو أنّ بعض المستشـارين اغتنمـوا الفرصة لتصفية الحسـابات مع البعض منهم، وأتولّـى إعفــاء جميع المستشـارين والإداريّيـن الذيـن تسبّبـوا في هذه التّجـاوزات أو سمحـوا بوقـوعها.

كمـا أتولّـى عقد اجتمـاع وزاري مضيّق يضمّ وزير الدّولة للوظيفة العمـومية والحـوكمة ومقـاومة الفسـاد ووزيـر المـالية ووزيـر العدل بحضـور رئيـس هيئة مكـافحة الفسـاد والمستشـار القـانوني للحكــومة ومن أراه من الكفـاءات المشهـود لهـا في المجـال، للوقـوف علـى حقيـقة مـا يُقـال من أن الهيئة أحــالت ملفّـات المُحـالين على التّقـاعد إلـى العدالة منذ 2017  ولم تتمّ محـاكمتهم، وهو مـا ينفيـه البعض منهم، ثمّ ضبط خطّة مشتركة لفتح الملفّـات بصفة جدّية دون تجـاوزات أو تشفي.

وفـي الأخيـر، أعلـن عن عقد مـؤتمر وطنـي لمكـافحة الفسـاد تحت إشـراف رئيس الدّولة  وبمشـاركة الحكـومة وهيئة مكـافحة الفسـاد والمجلس الأعلى للقضـاء والمنظّمـات الوطنية ومكوّنـات المجتمع المدنـي النّـاشطة في مجـال الحوكمة ومكـافحة الفسـاد وكذلك ممثّليـن عن المؤسّسـات العـالمية المعنية كمنظّمة الشّفـافية العـالمية وبرنـامج الأمم المتّحدة للتّنمية ومنظمة التّعـاون والتّنمية والبنك الدّولي والإتّحـاد الأوروبي، يتمّ خلاله وضع خطّة وطنية لمكـافحة الفسـاد مع تحديـد دور كـلّ طرف بدقّة وجدول التنفيذ يكـون مربوطا بآجـال واضحة.

هذا مـا يجب أن يحدث فـي الدّولة القويّة العـادلة، بلا تسـامح ولا تشفّـي.

لكنّ الجميـع يعلم أنّ إليـاس الفخفـاخ لن يفعلَ شيئـا من كل ذلك، لأنّ الـواقعية تفـرض علـيه الإعتراف بحجمه الحقيـقي كسيـاسي ليس له حزب ممثّـل في البرلمـان ومتحصّل على صفر ونيف في الإنتخـابات الرّئـاسية، وأن وزير الدّولة  محمّد عبّـو فـي حكـومته هـو فـي الحقيقة أقـوى منه، وحزبه أو أيّ حزب آخر من مُكـوّنـات الإئتلاف الحكـومي قـادر علـى الإطـاحة به لـو حدّثته نفسـه علـى الخـروج من بيت الطّـاعة.

خلاصة القـول، دستـور البلاد الحـالي والقـانون الإنتخـابي المعتمد كُتِبـا علـى المقـاس، بطريـقة لا يُمكن أن يُفرز إلّا مثل هذه المنظـومة السيـاسية الهجينة التـي يكـون فيـها الجميـع فـي السّلطة، مستفيدا من مزايـاها، ولا أحد مسئـول عن انحـرافاتها وتجـاوزاتها وفسـادها، تمـاما مثلمـا  كـان يحدث زمن البـايات، والّذي صـورته المُخرِجة العبقـرية مفيـدة التلاتلي فـي فيلم صمت القصـور.

 

 

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى