مجتمع

بقلم عبد العزيز القاطري: النهضة لمْ تنتَهِ، ومشروع سعيّد آيل للفشل. فهل سنصمت مرّة أخرى؟

يعتقد الكثيــر، عن حسن نية طبعــا، أن النهضة والإخــوان انتهــوا واندثــروا من تــونس ومصــر، بمجــرّد مــا آل الحكم لسعيّــد والسّيــسي بالطّريــقة التــي نعلمهــا جميــعا ونختلف في تسميتهــا حسب اصطفــافنا معهــا أو ضدّهــا.

والغـريــب أنّ أحدا لم يتســاءل لمــاذا يصمت جمــاعة النهضة علــى من يقــول باندثــارها، ولمــاذا لا يتصدّون لهم بالشّــراسة المعهــودة، خــاصّة وهم يتحـوّزون علـى آلـة مشبّكة من المــواقع والصفحــات والحيــطان قلّمــا توفّــرت لأحد مثلهم؟

يا جمــاعة، هل تظنّــون أنّ صادق شــورو والحبيـب اللّــوز ورضا الجوادي وسعيد الجزيـري وذلك الإمام الذي قال أن دم نجيب الشّــابي وشكري بلعيـد مطلــوب في جرجيس وغيرهم كثير من المنــاديـن بالخلافة وتطبيــق الشــريعة وإعمــال الحدود من جَلد ورَجم وقتل وصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، هل تظنّــون أنّ النّهضة نبذتهم بمجــرّد ذلك الإدّعــاء السّخيــف “بفصل السيــاسي عن الدّعوي”؟

أبدا، النهضة لن تندثر هكذا، والتنظيــم العــالمي للإخــوان المجرميــن الذي صمد أمــام الإعتقــالات والإضطهــاد والسجــون والإعدامــات طيلة عشريات، لن ينسحب بهذه السّهــولة من مــوقع طــالما سعى لاكتســاحه مقــابل خســائر جسيـمة، بمجرد إلقاء سعيّد لبيان 25، أو لتدابيره التالية. هو تنظيم سرّي محكم، وما نراه منه من حزب ومجلس شورى ومكتب تنفيــذي، كل ذلك ليس إلا الجانب العائم من الجبل الجليدي، مجعول للاستهلاك من طرف اساطين الغرب، الحليـف المتواطئ، وأذنابه في تونس وفي العــالم العـربي.

ومــا جوهر بن مبارك، أو بوعجيلة، أوالشابِّييْــن: نجيب وعصام، أو مصطفى بن جعفر، أو السبسي والشاهد وجميــع الأحــزاب التـي تســارعت لحني ظهــورها ركــوبة للغنّــوشي وعصــابته، إلّا البعض من أولئك الأذناب.

أمّـا الجزء الغــائص من جبل الجليــد فهو هنا، مازال متربصا بتــونس وشعبها، ولن يهدأ له بال حتى يراها ولاية تــابعة للخلافة السّــادسة، وإيـالة خــاضعة لسلاجقة العصر الحديــث، فقد يُغيّــر الثّعبـــان ثوبه، ولكنّه يبقــى ثعبــانا.

غير أنّ مــا يلفت الإنتبــاه (ويؤسف له)، هو أن الحــاكم بأمره الجديــد لم يتّعض هو نفسه بمــا جنــى الجمــاعة على تــونس أوّلا، وعلى أنفسهم بالتّــالي، عندمــا أتــوا وأعلنــوا فســاد كل المنظــومة التـي سبقتهم ووجــوب التّخلّــص منهــا وإحداث منظــومة جديــدة مطــابقة لمفهــومهم للحكم، فكــان مــا كــان، واليــوم نقف نفس المــوقف ممّــا كان في عهدهم وقبلــهم.

“المنظــومة” يــا جمــاعة مفهوم هلامي يختزل بكثير من البســاطة واقعا معقّدا، ويضع في شكارة السلبيات كل ما أنجز من خلال تلك المنظومة يوما ما، ويصبغها برداء من الرجس، ويصبغنا برداء من النقاء، ويختصر الأمر في معركة الطيبين، الذين هم نحن، والاشرار الذين ينتسبون للمنظومة. كل هذا إلى حين نصبح نحن ضمن المنظومة، أو نصبح المنظومة ذات نفسها، وعندها يكون الاشرار هم الذيـن ضد المنظــومة، وهكذا دواليك.

كل هذا إلى أن ندرك يوما ما انه مـا كـان يجب أن نرمي بالرضيـع وبماء الغسل معا، وانه كان بالإمكان المراكمة على ما كان، عندها يكون قطــار التدارك قد فــات.

هذه خطيــئة زمرة الفكر الإخواني المقيــت، بل إحدى خطاياها القاتلة، برهنت من خلالها انها ليست أحسن ممن سبقها في الحكم، بل أسوأ بأكثر من مّرة من حيث فسـادهـا واستبدادهـا، زائد التطرف والتكفيـر والتجــارة بالديــن. ويتبيّن بكل وضــوح انهم لم يكــونوا فقط مستفيديــن من الدّولة، بل معـاول لهدمها، وموالـين لأعدائها ولأعداء الحريّة والعدل والفكر في ممالك البترول وحول ربوع الأناضول.

لذلك، إذا ما رمنا إصلاحا حقيقيا وصريحا، وقبل التطرق للمنظومة وطرق إصلاحها، وجب حسم معركة أهمَّ من ذلك بكثـير، معركة ضد الخيانة والعمالة وضد معــاول هدم الدولة، وذلك لا يكــون بإعــادة هدم الدّولة والبنـــاء القــاعدي ودفع حجر سيزيــف إلـى أعلــى الهضبة من جديــد.

وعلى عكس ما يعتقد الكثير من أدعيــاء الحداثة أو أشباه الحداثيين، هذه المعركة لا تحسم بالعنف، وإن كان حق التصدي للمعتدي بكل الطرق محفوظا، ولا بالسّجــون وإن كــان من أوكد مـا يتوجّب هو محــاكمة الإرهــابييــن وكل من يوفر لهم الغطــاء، بل خاصة بنشر قيم الحرية والتسامح والاعتدال والاحتكام للعقل بدل النقل، وفتح أجنحة عقول الأطفال على عوالم الإبداع اللامتناهي.

وقد فطن أحد أحبار الزمرة لأهمية هذا البنــاء الحقيقي والسّليــم ووجوب هدمه، عندما قال لوجدي غنيم، داعية ختان البنات: “هؤلاء (يقصد التونسيين) خصوم لنا، ولكن لن نباشرهم بعداوة ظاهرة، لأن غايتنا أبناؤهم…، وأبناؤهم عندنا اليوم”.

لذلك تكونت الجمعيات، وأحدثت التلفزات والإذاعات، وشُيِّـدت مدارس تفريــخ الإرهابيين والإرهابيـات، وتكونت في المســاجد الحلقات، وأصبحت بيوت العبادة معــاقل للتكفيــر والتهديــدات، وتم حشد خيـرة الشباب للمشاركة في حروب بالوكـالة ضد الأشقــاء في ليـبيا وفي سوريا، وتم انتداب الفتيات والنسـاء ليكنّ متاعا جنسيّــا للدواعش، وليعدن بعد أشهر يحملن في أرحامهن وبين ايديهن ثمرة الفجور، وتم زرع الجبــال بالألغـام وبث القنــابل البشرية بين الأشجار وفي السهـول وحتى في الشوارع، يُفجّــرون الجنـود والامنييـن، ويذبحـون الرعـاة الآمنيــن، ويحصدون أرواح الأبرياء من السّواح والمواطنيــن، مُحتَميـن بالدعم المـادّي والاعلامي والسياسي والمعنوي للزمرة.

هذه هي المعركة الحق.

أمّــا الذيــن اعتقدوا يــوما، أو لا زالوا يعتقدون، أن المنظـومة هي الدّولة ومؤسســاتها، فإنّــي أذكّــرهم بالقــائل أن الإدارة مش مضمونة والجيش مش مضمون والقضاء مش مضمون؟ لقد كــان همه وهمّ زمرته الإنقضاض علــى تلك المؤسّســات، تدجيــنها، توظيــفها، ثم تفكيــكها، وقد تسنّى لهم الكثيــر ممّــا أرادوا، بدل إصلاحهــا لمــا فيه صالح البلاد والعباد.

وإنّــي أرى اليــوم نفس المشــروع بوجه لا يقلّ رداءة وانعدامــا للكفاءة، وجه الطّهــورية والنّقــاء للرئيـــس والزّمــرة الجديــدة، مقــابل نجـــاسة وفســـاد الجميــع: اليميــن، اليســار، الدّســاترة، إتحــاد الشغل، إتحــاد الأعــراف، صندوق النّقد، معــاهد التّصنيــف…

لقد استغلّ الإخــوان فســاد منظــومة التّجـمّع للدّعـــاية لمشــروعهم، ولمّــا أفلســوا، أصبح التجمّعيــون يرقصون على إيــقاع ذلك الفشل لإعــادة التسويــق لمشـروعهم والإنتشــار مجدّدا لدى فئــات قصيرة الذّاكــرة، أعمــاها اليأس من المستقبل فأصبحت تحيـط المــاضي القريــب والقبيــح بهــالة من الجمــال والطهر.

وهذا سبب صمت الإخــوان النسبي ودفعهم بزبــانيتهم للواجهة تحت مسمّــى مواطنــون ضد الإنقلاب، تمــاما مثلمــا فعـلوا ذات أكتــوبر 2004، عملا بالمقولة الشعبية “ينخز البهيـم ويتّقى بالبرذعة”، لكي يمعن سعيّد وزمـرته في مشــروعهم، وعندمــا تصفعه حقيــقة الفشل، يظهــرون من جديــد بمظهــر المنقذ المنتظــر، ويذكّــرون التّــونسيين “بإنجــازات” عهدهم السعيــد.

فإلــى متى نضلّ نجتـرّ المــولد المتكـرّر للنّسيــان، ونخطأ قطــار تأصيــل الكيــان، وننتظـر المــاء من سدّ غيلان، وهو ينســاب من الخـزّان، ونلعب دور السندباد والطهارة، فتؤول أعمــالنا للخســارة؟

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى