ثقافة

بقلم عبد العزيز القاطري: فــي بيــوت أذِن الله أن تُـــرفع

لا يمكن لتونسي عاقل ومتّــزن أن يكــون ضد تشييــد المساجد والجوامع والكتاتيــب فــي بلاد يعلن دستــورها فــي فصله الأول أن ديــنها الإسلام وينتسب أغلبية شعبهــا لدين الإسلام.

إن حرية العبادات والضّميــر التي يضمنها الدستور تقتضي تمكين كل المواطنيــن مهما كانت ديانتهم من ممارسة شعائرهم  وأداء واجباتهم الدينية وبناء دور عبادة يأمّــونها للغرض وتلقين أبنائهم أسس دينهم. لذلك وجب على الأصوات المحسوبة على التيارات المدنية الديمقراطية أن تراعي مقتضيات الدستور في هذا الشأن وحساسية الموضوع ومشــاعر غيـــرهم من التّــونسيّيــن وألّا ينطلقوا في حملات شعواء ضد المساجد تحت أي سبب.

لكن بالمقابل، لئن ضمن الدستور حرّية الضميــر والعبادات، فإنه حرص على تحييــدها طبقأ لأحكام الفصل السادس منه الذي ورد فيه “الدولة ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي”، لذلك يجب أن تخصص دور العبادة للعبادة وحدها.

وللأسف، كم شاهدنا من جوامع تحولت لمنابر للتكفير، وللتحريض على الكراهية والقتل، ولمخابئ للإرهابيين وللأسلحة، ولمقرات للمبيت، بل وحتى لأوكــار دعارة واغتصاب للأطفال، ومراكز لحشد الشباب لقتــال دول صديقة لم نر منها غير الدعم والتضامن زمن المحن.

وكم شهدنا من منحرفيــن وتجار خمور ومخدرات وخدم لنظام بن علي وعائلته وأصهاره أطالوا لحيّهم ولبسوا الهركات الأفغانية فوق ألبستهم من أغلى الماركات العالمية وسكنوا الجوامع وفرضوا طرقا لتسييــرها لا علاقة لها لا بالديــن ولا بالقانـون، وتحوّلــوا إلى وعّــاض ودعــاة، مكونيــن ميليشيــات على ذمّة بعض الأحـزاب المتطرفة، علاوة عــلى تجهيــز المآذن بمضخمـــات صوت يقع استخدامهــا في أقوى وضع ولســاعات متواصلة غيــر مراعيــن في ذلك لا راحة مريــض، ولا حــاجة عــامل للرّاحة، ولا حــاجة طــالب أو تلميــذ للتّركيــز، كــأنّ التّقـــوى فــي زمن الرّيــاء أصبحت تُقــاس بقوّة المُضخّم، وغيــر آبهيــن بأنّ للأذن البشريّة علميّــا طــاقة تحمّـل للضجيج لا تفوق 80 ديسيبال إذا تجـــاوزتها تعرّضت للضّـرر أو للتّلف وأن التعرّض لضجيج ولــو معتدل أو حتّـــى طفيــف ولكن بصفة متواصلة يضرّ بالسمع ويتسبّب في توتّــرات نفسيّــة بأشكــال مختلفة قد تؤدّي للإكتئاب أو للإنهيــار العصــبي.

وكم يعترض طريقنا في الشارع أو في بهو الجوامع من أشخــاص ملتحيــن بحفرة في الجبيــن عارضيــن علينا التبرع لبنــاء جــامع مقابل وصول غير واضحة، ولا أحد يعلم أين تذهب الأموال المجمّعة. بل وذهب الجشع بالبعض إلى تدليــس تلك الوصول بتغييــر المبلغ من دينار إلى خمسة دنانيــر، مثلما يحدث الآن  في أحد جوامع اريانة، معوّليــن في ذلك على طيبة البعض وجهل البعض الآخر، وعندما يتفطن المتبرع للمقلب يقولــون له أنه مجرد سهو ويرجعــون له البــاقي. وكم من مهرّب أو متهرّب أو محتكر خصص أموالا طـــائلة من محصول نشاطه غير القانوني لبناء مســاجد وجوامع للتبــاهي والظهور بمظهر الصّــالح التقيّ.

إنّ الذي ينفق أموال التهريب والفســـاد والسّرقة  في بناء المســاجد وتزويــقها وتكييــفها وتجهيــزها بمظاهر البذخ والترف من زرابي وثريات ورخام لكي يقال عنه أنه فعل ذلك نــاسيا واجبــاته القــانونية تجاه الخزيــنة وتــاركا إخــوانه وأبناء شعبه يعانون ويـلات الجهل والمرض والفقر وتبعــات التداين للغرب ليس جديــرا بالانتماء للوطن وللمجموعة الوطنية  ويصح فيه قوله تعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ.

يتم كل ذلك إِذنْ تحت عين الرّضــا من البعض، بل والخضــوع من الأغلبيّة الصّــامتة التــي أصبحت لا تجرؤ حتى عــلى لفت النظر ولو بلطف خشية سطــوة تلك الميليشيــات، وفي ضلّ صمت مريـــب من أجهزة الدولة المكلفة بالمراقبة الإدارية والمالية وحتى الأمنية والقضائية، صمت يوحي بمدى تمكن الأحزاب الراعية لهذه الممارسات والمتبنّية لتلك الجماعات من مفاصل الدولة، وبمدى تواطؤ الأحزاب التي تدعي الوسطية والمدنية والتقدمية مع الوضع مقابل المشاركة في الحكم والتقاط الفتات الذي تلقي لهم به أحزاب المتـــاجرة بديــننا الحنيــف.

لذلك، يُمثّــل استرجــاع تلك المســاجد من مُحتلّيـــها وبسط نفــوذ الدّولــة عليــها وتخصيــصها حصرا لمهمّتها الأصلية التي ذكرها الله في القرآن في قوله تعــالى في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ إحدى أولــى التّحديـــات التي تنتظـــر حكــومة الفخفــاخ والتــي ستقــاس من خلالهــا جدّيته في إعادة هيبة الدّولة وتطبيــق القــانون، كلّ القـــانون، ولا شيـئ غير القانون.

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى