اقتصاد وأعمال

دراسة: فشل السياسات يدفع الى تهميش اجتماعي شامل (2/3)

“المركب يغرق” كان ذلك هو وصف المتحدثة باسم وزارة الصحة، نصاف بن علية يوم 8 جويلية 2021 للوضع الوبائي في تونس، التي واجهت ذروة أزمة كورونا بعزيمة وإصرار القوى الوطنية والطبية، ولكنها استنفدت كامل طاقتها في مجابهة الفيروس. وتزامن إعلان تونس انهيار المنظومة الصحية، مع تأكيد ممثل منظمة الصحة العالمية، “إيف سوتيران”، آنذاك أن “تونس تسجل عدد وفيات هو الأعلى في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، وبالتالي تحتاج البلاد إلى مساعدة ولقاحات”، مؤكداً أن الوضع الصحي خطير، وكلّ المؤشرات حمراء.

انهيار المنظومة الصحية في البلاد ليس بالأمر الهين، ولكنه كان متوقعا خاصة أن المنظومة الصحية الوطنية والتي كانت تعدّ نسبيا احدى المنظومات الممتازة في منطقة شمال افريقيا والشرق الاوسط من حيث التنظيم والتماسك، تراجعت مؤشرات أدائها كثيرا منذ عقود بفعل نقص اعتمادات تطويرها واهمال القطاع العام المكون الأبرز لها. ويرجع اهتراء المنظومة بالكامل السنوات الأخيرة في الواقع الى وضع قديم متجدد من سوء سياسات الحكومات المتعاقبة وعدم الاستقرار الحكومي. وأصبحت اليوم وضعية المنظومة الصحية في تونس أحد البرز تجليات الحيف الاجتماعي ومظهرا أساسيا للفشل الاقتصادي ليس في المغرب العربي فحسب، بل وكذلك حتى على المستوى العالمي.

وتطرق، في هذا السياق، المنتدى التونسي لحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دراسته التي أصدرها الثلاثاء 22 مارس 2022 بعنوان “انعدام المساواة في تونس” الى التفاوت الاجتماعي في الحق في الصحة حيث تم التذكير في البداية انه وعلى الصعيد العالمي، لا تراجع في أوجه التفاوت في مجال الصحة ولا يزال السكان الأكثر فقرا يعانون من انعدام المساواة في هذا المجال ومعرضون للأمراض والمصاريف الباهظة للصحة. ولم يتم تسجيل تقدم في مجال الحد من زيادة الوزن والتقزم والهزال.  كما أن تغيير أنماط الحياة ينعكس على صحة السكان.

وفي تونس، فان مستوى الإنفاق الصحي يشير إلى عدم وجود إرادة حقيقية لمواصلة إعطاء الأولوية التي يستوجبها النظام العمومي للصحة. ولا تزال الحصة التي تتحملها الأسرة في الإنفاق عل الصحة مرتفعة جدا؛ وفي المقابل يشهد القطاع الخاص تطورا سريعا بما نتج عنه سلعنة الخدمات الصحية وبروز نظام صحي ذي سرعتين.

وتبرز البنية التحتية للمستشفيات والمعدات الثقيلة عمق التفاوتات الإقليمية الصارخة في القطاع العمومي للصحة بواقع وجود 61.2 سرير لكل 000001 نسمة في تونس العاصمة مقابل 10.7 في سيدي بوزيد.  اما فيما يهم الموارد البشرية فزيادة على انعدام التوازن الجهوي، وفي غياب الوسائل وظروف العمل والبحث المقبولة في القطاع العام، برز جنوح هام للمهارات نحو الهجرة إلى الخارج أو إلى القطاع الخاص.

كما لا تزال منظومة الضمان الاجتماعي غير قادرة عل ضمان التغطية الصحية الشاملة؛ حيث لا تتجاوز نسب المشمولين بالتأمين الصحي: 62.3 بالمائة من الرجال و78.2 بالمائة من النساء.

في جانب اخر، وفيما يتعلق بالبيئات المعيشية، فانه يبدو جليا انه لا يتم تقاسم المرافق بشكل منصف بين المناطق والبيئات والفئات الاجتماعية اذ انه من حيث مؤشرات النتائج، تبرز البيانات الاختلافات الكبيرة في مختلف المؤشرات بين البيئات والمناطق والفتات الاجتماعية ومستويات التعليم للأمهات. وتصل نسبة الصحة في الحرمان في الفقر المتعدد الأبعاد 24.4 بالمائة مقابل 61 بالمائة للتعليم و14 بالمائة للظروف المعيشية. وتؤكد هذه المؤشرات تراجع مؤشر التنمية البشرية المعدل حسب عدم المساواة لسنة 2019 (0.596) وهو ما يمثل خسارة بنحو 19.5 بالمائة من قيمة المؤشر الإجمالي.

هذا وكان للجائحة، وفق تقييم دراسة المنتدى، آثار موثقة على النمو والتشغيل والفقر وعدم المساواة. فقد انخفض الناتج المحل الإجمالي بنسبة 21.3 بالمائة في الربع الثاني من عام 2020، وبنسبة 8.8 بالمائة لعام 2020 بأكمله. وبلغ معدل البطالة 18 بالمائة في الربع الثاني من عام 2020 ووصل إلى 18.4 بالمائة في الربع الثالث من عام 2021. ولئن كان للإعانات الخاصة التي قدمتها الدولة لتخفيف انعكاسات الجائحة أثرا إيجابيا عاما على الفقر وعدم المساواة، فإن هذا الأثر ضئيل إلى حد ما سيما بالنسبة للنساء.

وقد كشف الوباء عن الصعوبات التي يواجهها نظام الصحة العامة في مواجهة متطلبات الوباء خاصة من خلال التفاوتات الصارخة بين المناطق من حيث البنية التحتية للمستشفيات والموظفين وأسرة الإنعاش. لقد كانت إدارة الوباء كارثية، وكان ذلك أحد أسباب تفاقم غضب التونسيين الذي أعربوا عنه في 25 جويلية 2021.

يذكر انه وعلى الرغم من تطوّر ميزانيّة وزارة الصحّة من سنة لأخرى، إلاّ أنّ هذا المؤشّر لا يعكس الوضع الحقيقيّ في هذا القطاع الحيويّ. فالغوص أكثر في تفاصيل ميزانيّة هذه الوزارة، يكشف أبعاد السياسة الحكوميّة القائمة على تقليص تدخّلها ودعمها للصحّة العموميّة. فالموازنات المخصّصة لوزارة الصحّة تمثّل 5.1 بالمائة من إجماليّ الميزانيّة العامّة للدولة. كما يشهد التمويل العموميّ لمخصّصات التنمية الصحيّة انخفاضا متواصلا ناهز على سبيل المثال 27 بالمائة سنة 2019. فالتقشّف الحكوميّ في هذا المجال الذّي يرتبط بصحّة التونسيّين وحياتهم، إضافة إلى تراكم ديون المستشفيات العموميّة، ألقى بظلاله على تطوّر البنية التحتيّة الصحيّة ومدى قدرة النظام الصحيّ العموميّ على تقديم الخدمات اللائقة للمواطنين.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، وعلى الرغم من زيادة عدد السكّان بمليون شخص تقريبا، إلاّ أنّ المرافق الصحيّة العموميّة لم تتطوّر بما يتناسب مع هذا النموّ الديمغرافيّ بحسب الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء. حيث لم تشهد البلاد خلال العقد المنصرم سوى إنشاء ثلاث مستشفيات عموميّة ليصبح العدد الإجماليّ 14 مستشفى لما يزيد عن 11 مليونا ونصف مليون ساكن، في حين لم تشهد المعاهد والمراكز الصحيّة المختصّة البالغ عددها 21 منشأة، أيّ تطوّر منذ سنة 2008. أمّا المستشفيات الجهويّة والمحليّة، فقد انخفضت أعدادها تباعا من 33 إلى 32 بين سنتي 2008 و2016، ومن 109 إلى 108 مستشفى محليّا خلال نفس الفترة.

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى