سياسة

بقلم عبد العزيز القاطري: فيــصل، الملك الطّيـب، الملك الشّهيــد

“مــاذا ننتظر؟ هل ننتظـر الضميــر العــالمي؟ وأين هــو الضميــر العالمي؟…أرجو الله سبحــانه وتعــالى، أنّـه إذا كتب لي المـوت، أن يكتب لـي المــوت شهيدا في سبيـــل الله”، الملك فيصل، حرب العبــور، أكتــوبر 1973.

بعد أقلّ من سنتيــن من هذا النّداء الشهيــر للعرب والمسلميــن، يتولّــى أميــر سعودي شــاب عائد من الولايات المتحدة اغتيــال الملك بثلاث رصــاصات فــي مجلسه.

مــاذا حدث فــي الأثنــاء؟

صــادف يــوم 24 مــارس الجــاري الذّكــرى السّــابعة والأربعيــن لاستشهــاد الملك فيصل رحمه الله، وتذكّــرني أزمة الطّــاقة العــالمية التـــي نعيـشها فــي أيّــام الحرب هذه بالأزمـة نفسهــا التي عــاشها العــالم سبعيــنات القرن المــاضي عندمــا قرّر فيصل استعمــال سلاح النفط فــي المواجهـة مع إسـرائيــل والدّول الغـربية الدّاعمـة لها.

بعد نكسة جــوان 1967 والهجــوم المفــاجئ الذي شنّته إسـرائيــل على مصر والأراضي الفلسطيــنية وسوريا والذي حطمت فيه المنظــومات الدّفــاعية وأسطول طــائرات الجيــوش العربية واحتلّـت سيناء والجولان بالإضــافة إلـى بقية الأراضي الفلسطيــنية، ضلّ العــرب يجترّون الهزيــمة والشّعــور بالذّل ويُعِدّون العدّة للثــأر واستــرجــاع الكــرامة. وفي 6 أكتـوبر 1973، أطلقت القــوات المصــرية الهجــوم حيث عبرت قنــال السويــس، وحطّمت خط بار- ليف الشّهيــر، واستعــادت في بضع ســاعات صحــراء سيــناء بعد ستّ سنـوات من احتلالها. أمّــا في الجــانب الآخــر من الجبهة، فقد أطلقت القوات الســورية هي الأخـرى الهجــوم واسترجعت هضبـة الجــولان.

وقد شــاركت 12 دولة عــربية، بمــا فيــها تــونس، في مجهــود الحرب، ســواء بإرســال فيــالق من الجيــوش الرسمية وفرق من المتطوّعيــن، أو بتوفيــر العتــاد والأسلحة والأمــوال.

لكن البلد الّذي تميّــز في تلك الحــرب الحــاسمة بانخــراطه فــيها عسكــريّا واقتصــاديّا وسيــاسيّا وديبلومــاسيّا، كــان المملكة العربيّة السّعــودية ومَلِكُهــا الوطنيّ، فيصل الذي لم يكتَفِ بمدّ جســر جوّي لنقل 20 ألف جندي إلى الجبهة داعيا جميــع المسلميــن للجهــاد، بل وأنشأ كتلة داخل منظّمة الدّول المصدّرة للنفط (أوبيك) فرضت في 17 أكتــوبر، أي 11 يــوما إثر اندلاع الحرب، رفع سعر البرميل بـ70%، مع التخفيض فـي الإنتــاج بمعدّل 5% شهريّــا إلــى غــاية تحـريـر الأراضي العـربية المحتلّة والإعتـراف الكــامل بحقــوق الفلسطينيّيــن، وذلك ردّا على الجسر الجوّي الذي فتحته الولايات المتّحدة لصــالح إسرائيــل في سعي منهــا لفكّ عزلة جيــوشها المحــاصرة وتغييــر ميــزان القوى الّذي كــان في صــالح الجيــوش العربية الّتـي أثبتت قدرتهــا علـى هزم العدوّ الصهيــوني إذا مــا توفّــرت الإرادة والكفــاءة، خــارج تدخلات الدّول الغــربية.

وفي 20 من نفس الشهر، فرض الملك فيــصل حضرا على مبيعــات البترول للولايات المتّحدة وهــولندا، أحد أكثـر الدّول دعمــا لإسرائيــل، متسبّبــا بذلك في مضــاعفة سعــر البرميــل ثلاثة مرّات، وفي ارتفــاع منســوب الغضب والحقد عليه وعلـى العرب والمسلميــن لدى الغرب.

وأمــام التهديــدات الأمريكيّة نصف المبطّنة بغزو شبه الجزيــرة العربية والإستيــلاء على آبــار النّفط في السّعــودية والكـويت والإمــارات، أظهر الملك ثباتا وربــاطة جأش لا نظيــر لهمــا، مهدّدا هـو الآخـر بالتخفيـض بـ 80% من الإنتــاج.

وعندمــا زاره وزيــر الخــارجية الأمـريــكي هنري كيسنغر لثنيه عن قراراته، يُروى أنّه استقبله في خيمة في رســالة بســاطة وتعفّف منه قــائلا له “عشنا، وعاش أجدادنا، على التمر واللبن، وسنعود لهما، فهل تستطيــعون أنتم العيش دون نفط؟.”… وعندمــا توجّه له ضيفه قــائلا “إن طائرتي تقف هامدةً في المطار، بسبب نفاد الوقود. فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة؟”، فــي إشــارة إلــى اقتصــاد بلده المتعطّــل جرّاء الحضر، أجــابه الملك “وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت، فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟”.

وبعد بضعة أشهــر، ذات 24 مــارس 1975، يعــود شـابّ من أفــراد العــائلة الملكية بعد تسع سنوات قضّــاها في الولايــات المتّحدة ليغتــال الملك. لم تستغرق عمليّة إيقــاف القــاتل واستنطــاقه ومحــاكمته والحكم عليه أكثــر من بضعة أســابيع، حيث تم تنفيذ ذلك الحكم فيه يوم 18 جوان 1975.

مــات الأميــر القــاتل ومــات معه سرّه حــول دوافع جريــمته، لكن البعض لم يجدوا صعــوبة في ربطهــا بأيدي المخــابرات الأمريكية والإسـرائيــلية، في علاقة بالتّهديــدات السّـابق ذكـرها.

هل وقّع فيصل الحكم بإعدامه عندمــا أشرع سلاح النفط؟ هل جعل الدّول الغربية تعي فجــأة مدى ارتهــان اقتصــاديّـاتها بالنفط العربي وضـرورة طمس ذلك السّلاح في المهد مع صــاحبه؟

لن يُصلّيَ الملك فيصل في القدس، لكن روحـه ستظلّ ترفرف على سمــاء قبّة الصخــرة إلـى أن نستعيــد كــامل سيــادتنــا على الأراضي العربية المسلــوبة وكــرامة ملاييــن البشــر الممرّغة من طــرف آخِــرِ كيــان استعمــاري على وجه الأرض.

أنــا من الجيــل الذي عرف الملك فيـصل وأحبّه من أجل مسيــرته الإستثنــائيّة ووطنيته الرّاسخة وثبــاته على المبــادئ، وكذلك من أجل إصلاحــاته الجريــئة للمجتمع السّعــودي والتــي كلفته عداوات من المقـرّبين منه ومن المحــافظين.

فَقَدَ الرضيــع فيصل أمّه بعد ولادته بخمسة أشهر وأُودِعَ لدى جدّته لتتكفّـل بتربيته. وقد مثّل هذا الحــادث، بالإضــافة إلـى انشغــال والده بالمســائل السيــاسية، ولتربيته في منــاخ من الزهد والتّقشف، عنصــرا هامّـا في نحت شخصيته الـقوية المستقلّة، فحفظ القرآن والأشعــار سريــعا، ثم تعلّم الفروسية والمبــارزة بالسيف مثلمـا تقتضيــه عــادات العرب.

في تلك الأزمنة لم تكن المملكة السعــودية موجــودة، وكــان والده عبدالعزيــز بن سعود واليـا على مقاطعة نجد في شبه الجزيرة العربية التي كــانت تتقــاسمهــا بعض العــائلات والقبــائل، كل منهــا تحكم مدينة ومــا جــاورها تحت سلطة الحكم العثمــاني، مركز الخلافة الإسلامية السّـائرة للأفــول.

وسرعــان مـا تفطّن الوالد إلـى نبــاهة الأميــر الطّفـل، وبعد أن كلّفه بترأّس بعض الوفــود الديبلومــاسية إلـى البلدان الأوروبية في مسعى منه لحشد الدّعـم لمشـروعه لتوحيــد شبه الجزيــرة تحت رايته، أوكل له قيــادة بعض العمليّــات الحربية ضدّ خصــومه، ثمّ قيــادة الجيـش الّذي استــولى علـى ولاية الحجــاز الّتي تضمّ أهمّ مديـنتيـن مقدّستيـن لدى المسلمين، مكّة والمديــنة، وهو لم يتجــاوز العشريــن من عمره، منهيــا بذلك حــوالي ألف سنة من حكم الهــاشميّيــن عليهمــا.

بعد تــوحيــد شبه الجزيــرة العـربية وتأميــن العيش فيــها وبسط النّفــوذ على كــامل أنحــائهـا، تمّ رسميّــا تأسيــس دولة المملكــة العـربيّـة السّعــودية فـي 22 سبتمبــر 1932، نسبة إلــى سعــود، شيــخ العــائلة، وإعلان عبدالعزيــز بن سعــود أوّل ملك لهــا، مع الإعتــراف الرّسمــي بها من طـرف القــوى الغــربية، وتعييــن الأميــر الشّــاب فيــصل كأوّل وزيــر خــارجية لهـا، خطّة مكث فيــها إلـى أن وافته المنيّة في 1975، إضــافة إلــى خطّته كرئيــس لمجلس الوزراء سنة 1958، ثمّ فـي 1962، وأخيــرا كملك ابتداء من سنة 1964.

كــانت المملكة عبــارة عن فسيفســاء من القبــائل المتفرّقـة عندمــا اعتلــى فيصـل العرش، في مجتمع قبلـي مسيّــر حسب النظــام التقليــدي الإقطــاعي المتداول منذ حوالي عشرة قـرون، يتولّـى فيه شيــوخ القبــائل تسييــر شؤونهم فيــما بينهم خــارج أيّ إطــار مركزي للحكم. لذلك بــادر الملك الجديــد بفرض سلطته علــى الجميــع، وإصلاح الحكــومة، وعصــرنة الإدارة، وبتحميــل الوزراء مسؤولية نتــائج أعمــالهم بعد ضبط واجبــاتهم ومشمــولاتهم، وإعــادة تـأهيل الجيش، وبعث الحرس الوطني…، وهو مــا خوّل للمملكة تبـوّأ مكــانة مفصليّـة على المستـوى الدّولي وجعلهــا طـرفا لا يمكن الإستغنــاء عنه في إدارة شـؤون العــالم، خــاصّة في منطقة الشــرق الأوسط التــي تتميّـز بعدم الإستقــرار والتّوتّـر الحــاد في العلاقات.

ومن أهم إنجــازاته نذكــر مضــاعفة ميــزانية قطــاع الفلاحة حــولي عشريــن مرّة، مــا ســاهم في تحقيــق المملكة لاكتفـائهـا الذّاتـي الغذائـي، وتوطيــن الرّحَّل من السّكــان، وخــاصّة الإذن بتعليــم البنات في مجتمع ذكــوري محــافظ إلـى أقصـى الدّرجــات.

فـي خضمّ ظُلمة هذه الأيّــام العسيــرة، وفــي الوقت الّذي تتنــاول فيــه بعض النُّخـب فــي تــونس وغيــرها المملكة وقــادتهـا بانتقــادات أحيــانا مغــرضة، وأحيــانا محقّة، خــاصّة في علاقة بدورهــا فـي تفشّي الفكــر الأصــولي الذي يقف وراء تكــاثر الجمــاعات الإرهــابية فــي أصقــاع العــالم الإسلامـي وفـي غيـره، أردت أن أحيـي علـى طريــقتي ذكــرى الملك الشّهيــد.

وهــو مــا يجرّنــي للحديــث عمّــا يقــوم به الأميــر محمّد بن سلمــان منذ تولّيــه ولاية العهد من إصلاحــات سياسية واقتصــادية واجتمــاعية عميــقة فـي بلد يتّسم بالفكر الدّيــني المحــافظ وفـي مجتمع يرفض التّغييــر عمــوما. فبعد أن أقدم علــى رفع منع سيــاقة المـرأة السّعــودية للسّيــارات، حركة قد تبدو بسيــطة للبعض، لكنّهــا أسقطت أحد الأصنــام التــي أحدثهــا المتزمّتــون دون أن يجرؤ أحد على المســاس به، انكبّ على إسقــاط كثيــر من الطّــابوهات الأخــرى، وذلك بفتح المجــال للنّســاء لتبوّأ الخطط القيــادية في الإدارة وفي الجيش كذلك، واتخذ مجمــوعة من التّدابيــر الثـورية فــي إطــار برنــامج الإصلاح المسمّــى “رؤية المملكة 2030” تتعلّق بالإصـلاح الجبــائي وتحريــر الإقتصــاد وخصخصة جزء من رأسمــال شركة أرامكو للبترول التــي يرأسهـا، إضــافة إلى مشــروع إنشاء مدينة نيوم الصناعية “أوكساچون”، أكبر تجمع صناعي وعلمي وترفيــهي عائم في العالم فــي البحر الأحمــر، وسيسمح فيــه حتّــى برفع منع تنــاول الخمــر تسهيــلا لجلب الكفــاءات الأجنبية من غيــر المسلمين، فـي مبــادرة هي الأولى من نوعهـا منذ عشــرات العقــود.

إنّ نجــاح بن سلمــان فــي جعل بلده يخطــو خطوة عملاقة في اتجــاه الحداثة ومنح فــرصة للعرب والمسلمين ليقطعــوا نهـائيّــا مع دابــر الأصــولية والتّطـرف اللذيْــن جعلاهم فـي ذيــل ركب الحضــارة، كلّ ذلك رهيــن مدى قدرته عــلى التخلّــص من مطبّ حرب اليمن، وصدق عــزمه علـى دمج حقــوق الإنســان وحقــوق المرأة والعمّــال والأجــانب، والتّخـلّي عن محــاكمــات الرأي وغيــر ذلك من الحقــوق والحــرّيات.

سيكــون بذلك قــام بأكبــر عملية إصــلاح حقيقي في شبه الجـزيرة، بل بثورة فعلية تقصم ظهــر الوهــابية، تلك المنظــومة الفقهية الرّجعيــة الّتــي تحــوّل أدنــى اختلاف في الرّأي إلــى حــالة ردّة يعقبهــا التّكفيــر وتــوجب الحدّ.

لذلك، يتـوجّب علينــا نحن كتــونسيّيــن مستنيــرين، معتدليــن وحداثيّيــن أن نحثّــه علـى مزيــد المضيّ فـي هذا التمشّــي الإصلاحي التّــاريخي، وأن يكــون نقدنــا له نقدا فعّـالا لا سلبيّــا، بنّــاء لا هدّامــا، يأخذ بعين الإعتبــار الدينــاميكية الثـورية التــي أحدثهــا فـي مجتمعه والتـي قد تنعكس بكلّ إيجــاب على جميع المجتمعــات في جميــع البلدان العربية والإسلامية بمــا فيهــا تونس، وعلى جميــع بلدان العــالم.

 

 

 

 

 

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى