سياسة

بقلم رضا الزهروني: الفعل السّياسي في تونس بعد جانفي2011 بين الموجود والمنشود

عندما أتعرّض إلى مواضيع تهمّ الشأن العام فانّ ذلك يكون غالبا من موقع المواطن المُطّلع على مشاغل البلاد والمهتمّ بالشأن العامّ والمعنيُّ بوضعها لا بغاية الفضول أو التطفل أو الثرثرة. وما يُؤْسَفُ أنّ العادة التي جرت عند كلّ وسائل الإعلام تقريبا تتمثّل في اعتمادها على ترويج صُراخ الفاعلين وأغلبيتهم من الفاشلين سياسيّا ويتجاهلون العديد من أصوات المفعول بهم وفيهم من يفقهُ في الشأن العام بقدر لا يقدر عليه الفاعلون حتى وإن كانوا مجتمعين.

عرفت تونس منذ جانفي 2011 من وجهة نظري ثلاثة محطات أساسية. الأولى والتي يمكن وصفها “بالتأسيسية” بلغت فيها حركة النّهضة الحكم بفضل الالتفاف الشّعبي حولها اعتقادا بأن ذلك سيساهم في ردّ الاعتبار للإسلام في تونس وفي إعلاء مكانة الدّين. وجعلت الحركة من ذلك محور لبرنامجها السياسي من خلال اعتمادها خطابا يرتكز بالأساس على الترويج لصور لها ومشاهد من الخيال تَظْهرُ فيها كضحيّة للاضطهاد الذي تعرضت إليه في عهدي نظامي بورقيبة وبن علي رحمهما اللّه بسبب دفاعها على مقاصد الدين الإسلامي. ثمّ أتت فترة حكم حركة نداء تونس في 2014 والتي يمكن وصفها “بالانتقالية” بعد فشل النّهضة في تسيير شؤون البلاد وما مثّله من خيبة أمل كبيرة أصابت نسبة هامة من مكونات المجتمع ومن ضمن الذين اعتقدوا في حسن نواياها. بالإضافة إلى الاعتماد على نشر صور ومشاهد معاكسة تماما في بعديها الاجتماعي والعقائدي لما نشرته حركة النهضة في 2011. أي  صور ومشاهد تُظْهِرُ الحركة وكأنّها تريد العودة بالمجتمع التونسي إلى سنوات الظلامية وزمن قطع الرؤوس والأيادي وتعدد الزّوجات. وهذا ما عمل على ترويجه بالفعل النّداء وجعل منه محور برنامجه الانتخابي. الشيء الذي جعله يفشل بدوره في تسيير شؤون البلاد. فشل ساهم فيه أيضا الغباء الذي تميزت به عديد القيادات الفاعلة في الحركة. وأخيرا أتت فترة النظام القائم والتي يمكن وصفها بفترة “الأمل” كردة فعل للمجتمع التونسي على التّكالُب على الحكم لجلّ الأطراف المؤثرة سياسيا على الساحة والوطنية وخاصّة على من اعتلوا السُّلطة وتعبيرا صارخا على خيبة أمل من التجربتين السابقتين. حيث سجّلت الانتخابات الرئاسية 2019 التفاف الأغلبية الحاسمة من مكونات الشعب التونسي حول شخص رئيس الجمهورية بالرغم من إقراره بعدم صياغته لبرنامج انتخابي بالمعنى السياسي للكلمة. ونجد مبررا لذلك من خلال الاعتقاد بأنّ نظافة اليدين و”العذرية” السياسية يمكن أن يمثلا الحلّ الأسلم لضمان الخروج بالبلاد من المأزق الذي تتخبط فيها قرابة العشرية في كل المستويات.

وكنتيجة لهذه الاختيارات يجب علينا الإقرار بأنّ أداء البلاد ما انفك يتراجع منذ جانفي 2011 تقريبا ليصل بنا اليوم إلى ما نحن عليه من وضعيات حرجة جدا في كلّ المجالات المتعلقة بحياة المواطن التونسي وبإدارة الشأن الوطني. وهي وضعية لا يمكن لأحد أن يتمنّاها لنا حتّى من نعتقد أنهم أعداؤنا. سوف لا أتعرّض إلى الغايات غير الأخلاقية والدّفينة التي دفعت بنا إلى المجهول مثل الانتهازية والتشبث بالحكم والهروب من المحاسبة والمسؤولية وحتّى الانتقام للنفس والخوف. فالأسباب الفعلية والموضوعية تتمثّل من وجهة نظري في الجهل غير المبرّر للثّقافة الضرورية والمتّصلة بالسيّاسة والحوكمة والبرمجة الإستراتيجية وبمعانيها وبشروط ممارستها.

فالسياسة بالنسبة للكثيرين ليست لها علاقة بالأخلاق وبالبرمجة وباحترام الوعود والتعهدات. فهي مناورات وفنّ المراوغة وتوافق مع أطراف غير متجانسة إن كانت مصلحة في ذلك وشعبوية ووعود واهية قصد إرضاء الرأي العامّ ومغالطته. في حين أنّ الغاية السّامية من السّياسة تتمثل في العمل الجدّي والمتواصل على الارتقاء بجودة حياة المواطن في كل المجالات مهما كان سنه وجنسه وأين كان بكلّ ربوع هذا الوطن ومتى كان وذلك في خصائصها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعاطفية. فالفعل السياسي يرتكز بالأساس على برامج سياسية مدروسة يتمّ حبكها من طرف المختصّين المعنيين وعلى ما تتضمنه من استراتيجيات وخطط ومشاريع وبرامج بهدف الّنهوض بواقع البلاد من خلال ضمان ما يتطلبه الوضع من نمو اقتصادي ورفاه اجتماعي واستقرار أمني بهدف ضمان حقوق المواطن والاستجابة إلى حاجيات الشعب وتطلعاته وأولوياته وآماله وأحلامه. وتتمثلّ الوسيلة في كسب ثقة أكبر عدد ممكن من المواطنين لاعتلاء كرسي الحكم والتّمكّن من مراكز القرار في المستويات المحلية والجهوية والمركزية لتنفيذ هذه البرامج والمخططات والمشاريع. على أن يتمّ في حال بلوغ السّلطة توفير كل الظروف لتصبح الوعود الانتخابية وما تضمنته من برامج وتعهدات واقعا ملموسا من خلال التوظيف المحكم للإطارات لتحمل المسؤوليات خاصة من حيث ضرورة توفر الكفاءة والنزاهة والوطنية والمسؤولية ونكران الذات وضرورة إعلاء المصلحة الوطنية على المصلحة الشخصية والمصلحة الحزبية.

في حين أنّ الغاية من الحوكمة ليست التربّع على كرسي السّلطة لنفعل ما نريد ومتى تريد من دون حسيب ولا رقيب. وليست الحوكمة ارتجالا للسياسات وللقرارات أو الانفراد بها خاصة عندما تكون مرجعياتها واعتباراتها سياسية أو إيديولوجية أو مصالح شخصية على حساب المصلحة الفضلى للمواطن وللوطن حتى وإن تطلب الأمر تجاوز القوانين الجاري بها العمل. فعندما ندرك أنّ الغاية الواجبة من كلّ السياسات تتمثل في خدمة المواطن وفي تحسين وضعيته في كلّ مجالات الحياة وفي الارتقاء بشأن البلاد وطنيا ودوليا، تُصبح عندها الحوكمة مطالبة بدفع إنتاج الخيرات وبجودة خدمات المؤسسات العمومية أو الخاصّة والاستجابة بصفة مسترسلة إلى متطلبات الأداء والفاعليّة والنّجاعة والإنتاجية مع ضمان ما هو مستوجب تجاه الموارد البشرية من اعتبار وحقوق ورفاه. وبالتالي فأنّ الحوكمة تستمدّ جذورها من النصوص القانونية والإجراءات المعمول بها ومن المراجع الفنية ومن رؤاها الاستشرافية ومن التحديات الواجب عليها رفعها ليقع سحبها على كامل أنشطة هياكل الدولة ومؤسساتها وعلى كافة العاملين بها في إطار تنفيذها لمهامها وفي مختلف مراحل انجازها والتي تندرج من وجهة نظري صلب أربع مستويات محورية وهي التّخطيط والتّنفيذ والمراقبة والتّقييم.

فالاستراتيجيات ليست وعود وإعلانات نوايا وأُمنيات وليست عناوين لمبادئ ولقيم ولمثاليات وليست استنباط لحلول ظرفية أو ترقيعية ولا تصرف في اليومي وفي كلّ ما هو متوفر ولا في ترحيل المشاكل والصعوبات إلى مواعيد لاحقة. بل هي نتاج دراسات وعمليا تخطيط محكمة تتمثل بالأساس في ضبط الأهداف العامّة والأهداف الإستراتيجية الواجب تحقيقها وإعداد المخططات العملية والبرامج الضرورية  للغرض وتحديد الأطراف المسؤولة على التنفيذ والمتطلبات الواجب توفيرها والجدولة الزمنية الواجب احترامها. على أن تتضمن عملية التّخطيط تحديد الكلفة الضرورية للانجاز وكيفية توفير الاعتمادات السّنوية ليتسنى لمختلف الهياكل المعنية انجاز مهامها وتنفيذ أنشطتها على الوجه المطلوب.

ومن الضروري أن يكون للسياسات والإستراتيجيات التي تتمّ بلورتها رؤى طويلة المدى ومتوسطة المدى وان تستجيب في الوقت ذاته إلى ما هو مستعجل وحيني. على أن يتمّ الحرص على عدم الخلط بين الأهداف الإستراتيجية والأهداف العملية والبرامج السنوية وعدم الخلط أيضا بين الأهداف والمتطلّبات وبين الأسباب والنتائج.

رضا الزّهروني

ضابط سامي متقاعد من الجيش

لمتابعة كلّ المستجدّات في مختلف المجالات في تونس
تابعوا الصفحة الرّسمية لتونس الرّقمية في اليوتيوب

تعليقات

الى الاعلى